الدُقّي.. مرة أخرى

د. محمد العريمي

أكتب هذا المقال الآن وأنا جالس على إحدى طاولات مقهى السد العالي المُطل على شارع الدُقّي بقاهرة مصر المحروسة؛ وهو أحد المقاهي الشعبية القليلة التي ما زالت تحتفظ بعبق الماضي؛ ومازالت تدافع عن وجودها الحضاريّ وعن تاريخ حافل بأشياء كثيرة صنعت بداخلها؛ ولست أدري ما إن كنت سأتمكن من قدرتي على إرساله قبل صبيحة الغد الثلاثاء أم لا بعد أن ارتكبت أحد أخطائي ولم أحضر حاسوبي الشخصي معتقداً أنني سأتخفف بذلك من حملي لأشياء شخصيّة قد تعيق حركتي في رحلة سفري القصيرة؛ ومتوهّماً أنني سأجد (سايبرات) الإنترنت تملأ الشوارع الجانبيّة معتمدا على ذاكرة تعود لعشر سنوات سابقة!!

كنت قد قررت العودة إلى الدقي؛ هذا الحيّ الذي كان أحد أرقى أحياء قاهرة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي قبل أن يترك المجال لأحياء أخرى قريبة كالمهندسين؛ وبعيدة كمدينة نصر؛ وقبل أن تسيطر موضة التجمعات الجديدة كالرحاب؛ وأكتوبر؛ والتجمع الخامس؛ والرحاب على المشهد جاذبة الصفوة ومحدثي النعمة الجدد إليها؛ أقول كنت قررت العودة إلى هذا الحيّ العريق والمكوث فيه طيلة أيام سفري القصيرة؛ رغبة في استحضار ذكريات عشر سنوات مضت؛ ذكريات أول سنة دراسة وغربة؛ وأشياء أخرى جميلة مازالت لم تبرح الذاكرة!.

أشياء كثيرة مازالت باقية وأخرى تغيّرت وذهبت كما تذهب أشياء كثيرة جميلة من حياتنا؛ مازال عم ربيع أشهر باعة المأكولات البحرية صامداّ (يقاوم) ظروف الزمان وتقلباته؛ مازالت ملامحه كما عهدتها بحول عينيه وجسمه الممتلئ؛ وإن رأيته هذه المرة جالسا على طاولة أمام المحل لا خلف فاترينة المحل حيث مكانه الدائم وقتها كعلامة بارزة من علامات ميدان الدقّي؛ وأيقونة من أيقوناته، وتوفّي السمكري العجوز الذي كان أول من أصبّح وأمسّي عليه في رحلة خروجي اليوميّة من وإلى شقتي القريبة من المكان؛ ولم يعد محمود حريصاً على أن تمتد ساعات فرشه لبسطة صحفه اليومية في ناصية شارعنا المطل على الميدان أكثر من سويعات قليلة تنتهي غالباً مع قدوم الظهيرة بعد أن كان يقف في المكان لساعة متأخرة من المساء؛ ترى هل ملّ المصريّون أخبار الصحف وما تحمله من أخبار ليس بها سوى همّ لا ينتهي عن غلاء المعيشة؛ وارتفاع سعر الدولار؛ وأخبار العمليّات الإرهابيّة التي يروح ضحيّتها البسطاء من المجنّدين ورجال الجيش والشرطة!

لم يعد لقهوة (النصر) وجود؛ واستبدلت بمحل حلويات زمزم؛ وهو محل شيك يبدو غريباّ وسط محلات الميدان التي مازالت ملامحها تحتفظ بعبق السبعينيات والثمانينيات المميّز؛ أسأل نفسي وأنا أقف بجوار المحل الذي كان يوماً ما قهوة شعبيّة تركت فيها بعضاً من ذاتي؛ وشيئاً من إنسانيتي: ترى لم أقفلت تلك القهوة؟ هل هي تقلبات الزمن؟ أم الظروف التي أدت بأصحابها إلى استبدال القهوة المرّة السادة بجاتوه من الحلوى علّها (تحلّي) عيشتهم؟ كم من الليالي سهرتها؛ وكم من الأمسيات الجميلة قضيتها في ذلك المقهى أتحاور مع مصريّين صميمين على اختلاف مشاربهم الفكريّة والاجتماعية حول قضايا فكريّة وسياسيّة لا تنتهي؛ أو ألعب دور(عشرة بلدي) مع أقرب موظف حكوميّ أجده جالساً بجواري؛ أو بصحبة أحد دواوين نزار الكثيرة حيث تأخذني الجلالة أحياناً رافعاً صوتي وكأنني ألقى قصيدة شعر في محفل أدبي بالشام أو بغداد لا كأنّي في قهوة شعبيّة عتيقة مطلّة على ميدان الدقّي بمصر!.

ليومين متتاليين ألمح محل عم مجدي أقدم ترزيّة الحيّ مقفولاً وإن كان اسمه مازال يتصدر لوحة المحل القديمة كما هي بخطها الديواني الجميل الذي كان سمة تميز لوحات الستينيات؛ ما زلت أتذكر زيارتي للمحل في اليوم الثاني من إقامتي بالحيّ كي يخيط لي كم أول بدلة أشتريها في حياتي؛ ولازلت أتذكر (عدّة) شغله العتيقة وكأنني في مشهد من فيلم عربيّ قديم!.

أقف الآن أمام العمارة التي كنت أسكن بها في 4أ شارع جهينة؛ لامحاً مجدي البواب وهو يستعد لركوب دراجته الهوائية ذاهباً في مشوار روتينيّ يوميّ إلى محل بقالة قريب كي يحضر طلبا لأحد قاطني شقق العمارة؛ أو لاستعجال صبي المكوجي في إحضار الملابس لأن صاحبها على (وش خروج). لم تتغير ملامح مجدي كثيراً عن آخر مرة رأيته فيها سوى بعض الشيب الذي غزا أطراف شعره. ترى هل سيتذكرني لو رآني وهو المطحون بهموم الحياة اليومية؛ وهل يملك أمثاله ترف التذكّر؟! وهل ماتزال الشقّة التي كنت أسكنها على حالها؟! وهل مازالت سفرة الطعام الكبيرة تستحوذ على مساحة الصالة الضيّقة أصلاً؟! وهل ما تزال المياه تتجمّع في مغسلة المطبخ أم نجح الساكن الجديد في إصلاحها بعد أن باءت محاولات إقناعنا لصاحبتها بالفشل وقتها؟! وهل ماتزال سجّادة غرفتي التي اشتريتها وقتها بعد أن يئست من كل محاولات تنظيف سجّاد الشقّة باقية أم تمّ التخلّص منها؟! أسئلة كنت أطرحها لنفسي وأنا أقوم بالتقاط صورة لمدخل العمارة وسط ارتياب شخص كان يقف بجوار المدخل.

الدُّقي .. حيث ذكريات كثيرة مرت هنا؛ 25 ش أمين الرافعي حيث سكن المفكّر الكبير جمال حمدان أحد أعلام الجغرافيا المصريين الذي استقال من جامعته ليتفرّغ لبحوثه ودراساته تاركاً أكثر من 100 كتاب وبحث ومقالة أشهرها كتابه الخالد (شخصية مصر)؛ وحيث اغتيل ذات يوم في نفس الشقّة بعد أن شعر البعض بخطورة ما يكتبه؛ الدقّي حيث رفعت إسماعيل بطل روايات سلسلة ما وراء الطبيعة؛ والعجوز الأعزب ضئيل البنيان؛ أصلع الرأس؛ الذي يدخّن كقاطرة مرّ عليها الزمان كما يصفه صاحب السلسلة بعد أن قدّمه كهادم للأساطير. الدقّي حيث بروتين السبكي؛ وصيدلية رشدي؛ ومخبز جوهرة الميدان وعيش الفينو ومعمول التمر المميّز الذي كنت أجد فيها وجبة سريعة ومضمونة وقليلة التكلفة؛ وحيث الرضا للصرافة؛ وكهربائي شحاته وذكريات تغيير مصابيح الشقّة؛ وكبابجي عظمة الذي توسّع محلّه ليستحوذ على الممرّ القريب منه وذكريات الكباب والكفتة والطرب التي كنت أتقاسم لقمتها مع صنايعيّة قهوة النصر؛ وسوبر ماركت سعودي؛ وعم أحمد الحلاق العجوز؛ ومطعم كاستن الراقي للمأكولات البحرية الذي استبدل بكافيه جديد اسمه القهوة بعد أن كنت أمنّي النفس بوجبة شهيّة فيه لم تكن ظروفي المادّيّة لتسمح بها وقتها. الدقّي حيث المركز الثقافي الروسي بفعاليّاته المميزة، وميدان المساحة، وفندق سفير، وشارع الوحدة الأفريقيّة، وتمثال أحمد شوقي حيث جلست عليه يوماً ما ذات مغربيّة ودمعتي قريبة من خدّي متذكراً أهلاً وأحباباً فارقتهم. الدّقي حيث كثير من الأماني والأحلام التي تخيلتها مع أول يوم دراسة، وحيث ذكريات استعصى الزمن أن يمحوها من بقايا ذاكرة مهترئة ما زالت تقاوم تقلّبات الزمن.

تعليق عبر الفيس بوك