الخروج من الإدمان على النفط!

رضوان السيد

في حديثه الطويل إلى "العربية" مع تركي الدخيل ذكر الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد السعودي مصطلح أو تعبير "الإدمان على النفط" وهو تعبيٌر صادم بمجازيته وواقعيته في الوقت نفسه.

فمنذ قرابة الخمسين عاًما، أي في الستينيات من القرن العشرين، ظهر مصطلح "الاقتصاد الريعي" الذي يتطلب حًدا أدنى من العمل والكّد، وحدًا أدنى من الجهد في توزيع الريوع. وهذا النمط من الاقتصاد الذي أقام مجتمعات رفاٍه وهشاشة، ونشر علاقاٍت من نوٍع معين بين الحاكم والمحكوم، كما أّدى إلى تسويد أساليب معينة في السياسة الخارجية، هو الذي يعلن ولي ولي العهد السعودي الخروج عليه باتجاه نمٍط استثماري وإنتاجي، يخرج من الممارسات التي تشبه الإدمان، وينشر نوًعا آخر من الرؤى والممارسات التي تميل إليها المجتمعات الشابة، والمجتمع السعودي واحٌد منها. ذكر ولي ولي العهد السعودي دولة الملك عبد العزيز آل سعود، وهي دولٌة ما قامت على النفط، وقد سادت في أعظم أجزاء الجزيرة العربية مساحًة، وظهرت لها علاقاٌت خارجيٌة مع الدول الكبرى، والأخرى العربية، دون أن يعتبر أي طرٍف أّن الملك عبد العزيزُيعاني من ضعٍف سببه الافتقار إلى النفط! ولكي لا يقع في وهم أحد ضرورة الانتقال من النقيض إلى النقيض، ذكر ولي ولي العهد، وبعض معاونيه في الحملة الترويجية للخطة، أّن بداية التغيير تعني تسييل أو تسويق أو سهمنة 5 في المائة من شركة أرامكو، من أجل الإفادة منها في السوق الاستثمارية، بينما تبقى نسبة الـ95 في المائة صندوًقا سيادًيا للأجيال. وهو صندوٌق لاُيستنزُف لضخامته من جهة، ولأّن تحولات السوق من طريق الاستثمار، وتنشيط القطاع الخاص، وتنشيط السياحة الدينية، وتنشيط اقتصاد المعرفة، كُّل ذلك يجعل أكثر من نصف الموارد موارد غير بترولية خلال ما يزيد قليلاً على السنوات العشر. إّن ما يراهن عليه ولي ولي العهد، والُنَخب الشابة المتطلعة إلى المستقبل، أن يتغير معنى الحياة وطعمها وفُرصها، فتتغير بالتالي أنماط علائق الحاكم بالمحكوم، في دولٍة للمواطنة والحقوق، ينتفي في التعاُمل فيها الاستتباع والزبائنية، التي توجد على أي حاٍل حتى الآن في الأنظمة الأمنية والعسكرية، أكثر بكثير من بعض أنظمة الجزيرة. لقد كان ممكًنا بالطبع تطوير مجتمعات إنتاج وكفاية وإبداع حتى لو كانت الموارد بترولية، مثلما حصل في النرويج وبعض الدول الإسكندنافية الأخرى. بيد أن تلك كانت كياناٍت حديثًة قائمة قبل النفط، فاستطاعت إنفاق الموارد الجديدة في التنمية وبناء الاقتصاد الاجتماعي، وهو الأمر الذي حاوله العراق لعدة سنواٍت في العصر الملكي. وبحسب هذه الفكرة، فإّن النفط هو الذي أنشأ الدول في منطقتنا. لكن ولي ولي العهد السعودي يتحدث عن دولٍة "قبل نفطية" في المملكة العربية السعودية، وهو لا يريد الرجوع إلى الوراء لبلوغ ذلك النموذج، بل إّن ما يريد قوله هو أّن الاقتصاد التنموي غير النفطي ممكن.

ونحن لا نريد الخروج بتاًتا من اقتصادات النفط، لأن ذلك غير ممكن. بل ما نريده هو التحول التدريجي، ومن خلال تسييل موارد قليلة مما أتاحه احتياطي النفط الضخم، لاجتراح سوق استراتيجية تعتمد آليات السوق ومنطقها، ومنتجاتها وإبداعاتها، بحيث نمتطي عربتين وليس عربًة واحدًة صارت معرضًة أكثر من ذي قبل لعوامل التقادم والانكسار في أسواق يتزايد فيها العرض على الطلب، وتظهر عشرات التطويرات التيُتنَفُق عليها المليارات لإيجاد طاقٍة بديلة. إّن الخروج على «العادة» إذا كانت قد صارت نمًطا لهُشَعٌب لا نهاية له، صعٌب صعب. وهذا معنى «الإدمان». فالإدمان ليس مرًضا يصيب خلايا وحواس وأعصاب المقبل على المخِّدر، بل هو أيًضا نظرة تتكون لدى الآخرين عن هذا "المدمن" الذي قد لا يكوُن مدمًنا، وإن أوهمت بذلك أنماطه السلوكية. فإلى العلاقات الزبائنية بالداخل، ظهرت علاقاُت الاستتباع والحماية مع الخارج. واستمرت عقوًدا وعقوًدا، إلى أن كسرها تدخل دول مجلس التعاون في البحرين، ثم في اليمن، وتوجهها المناهض للتنظيمات الراديكالية والعشوائيات في مصر وسوريا والعراق وليبيا ولبنان. وهي مواقف وممارساٌت ما حظيت في الغالب باستحسان الأميركان أو الروس. لقد اعتادت الإدارات الأميركية السابقة أن تتحدث عن الحلول الشرق أوسطية، فإذا وصلت إلى الإجراءات العملية، ذكرت ثلاثة أطراف تريد إقامة تواُزن بينها، وهي إسرائيل وإيران وتركيا. أما في حالة العرب، فهي الكفيلة بحفظ أمن الخليج!

أين المشرق العربي؟ أين مصر؟ هل هذا كله قابٌل للتفاوض في الأمن والاستقرار والحصص والحدود؟ دول مجلس التعاون خرجت ­ كما سبق القول ­ على سياسات إدمان الانكماش وحماية الخارج. وقد أمكن لها ذلك، رغم أّن اقتصادها بترولي، يوحي بنمٍط وممارساٍت معينة. وأكبر هذه الدول، وهي المملكة العربية السعودية، تقول الآن إّن "النمط البترولي" عرضة للتهديد لعدة عوامل، أبرزها اليوم الانخفاض المخيف في الأسعار، الذي لاُتدرى حدوُدهُ ولا مداه. وقد كان يقال إن الإصلاح والتغيير أهون ما يكون عندما تكون الأبواب لا تزال مفتوحة، وهو يصبح صعًبا، وصعًبا جًدا، عندماُتصبح الأبواب مغلقة.وإذا كانت خطة التغيير (2020 ­ 2030 (تقصد إلى التحول التدريجي عن الاعتماد الكامل على النفط، فتعطي بذلك السوق والعرض والطلب مساحاٍت أكبر وأوسع، فإّن علاقات الحاكم بالمحكوم ستتغير ليس في مسائل الحقوق وحْسب، بل وفي مسائل الواجبات. فكما كان يقال في بريطانيا إنه "لا ضرائب دون تمثيل"، صار يقال أيضا "ولا تمثيل دون ضرائب!"، فالمواد الأساسية المدعومة ستتغير أسعارها أو بدأت، وضرائب الدخل، والضريبة على المبيعات. وفي الوقت نفسه، سائر القطاعات تنطلق من أجل التحويد في الخدمات، ما دام القطاع الخاص سيتحول إلى شريك فعلي، وليس مجرد متسلّم للمقاولات من الدولة. وفي حالٍة كهذه، فإّن الدولة تتفرغ للقطاعات الاستراتيجية، في الطاقة، والنانو، ووسائل الاتصال، والإلكترونيات، والصناعات الدفاعية.

لماذا نستورد كل شيء تقريًبا في مجال التسلح الثقيل؟ لقد حاولت دول الخليج الإعانة على إنشاء صناعاٍت عسكرية في مصر، منذ السبعينيات، ولا ندري إلى أين وصل الأمر؟ ويقال إن الآليات العسكرية المتطورة الأفضل الحصول عليها من مصادرها، وهي حليفٌة لنا على أي حال. بيد أن هذا كلاٌم لا يغني عن الخبرة، وعن التدريب، وعن الاحتياط والاستعداد. بالأمس، هدد البريطانيون بعدم الإمداد بالذخيرة في حرب اليمن. وغًدا، سنسمع كثيًرا ربما عن مصر أو السودان. وما عدنا بحاجة للتسابق، وإثارة التنافس بين أميركا وروسيا... إلخ. فلننصرف للعناية بالضرورات والضروريات التي لا يغني فيها أحد عن أحد. مبادرة ولي ولي العهد السعودي قفزةٌ جبارةٌ ليس فيها أي نوٍع من المجازفة، وهي تعتمد جرأة العقل، وهمة الشباب، والنظر في الحاضر بعيون المستقبل. إنها المبادرة التي يتطلع كل عربي للانضمام إليها.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة