موجز تاريخ الجنون

فيصل الحضرمي

يُقدِّم كتاب "موجز تاريخ الجنون" للمؤرخ البريطاني روي بورتر -الصادرة نسخته العربية عن دار كلمة، سنة 2012، بترجمة ناصر مصطفى- عرضاً شيقاً لتاريخ الجنون وما ارتبط به من تصورات ومقاربات منذ بدايات التاريخ وحتى مشارف القرن الحالي. ويعرض كذلك لنشأة وتطور الطب العقلي وعلم النفس والممارسات العلاجية الموظفة في هذا المجال، مما جعل الكتاب أكثر إمتاعاً توجهه للقارئ غير المتخصص وتجنبه بالتالي للمصطلحات المعقدة وطوافه الخاطف على مختلف المراحل الزمنية التي تشكلت فيها المعالم الأبرز لتاريخ الجنون، مما سمح له بتلافي الوقوع في الرتابة والإملال.

نعرف من الكتاب أن "الأساطير الدينية المبكرة والحكايات الخرافية تصورت الجنون قدراً أو عقاباً. جاء في سفر التثنية: "لقد كُتِبَ أن الله سوف يبتليك بالجنون". كما ارتبط الجنون عند القدماء بالعنف والوحشية والسخرية من الدين، مثلما فعل هيرودوت حين رمى ملك الفرس كامبيس بالجنون متسائلاً: "من يستطيع الحط من قدر الآلهة غير المجنون؟". وكانت اضطرابات المزاج والسلوك والكلام تنسب عادةً إلى قوى فوق طبيعية، فقد نسب الهندوس التشنجات الصرعية إلى الشيطانة غراي "الأنثى التي تتلبس". وجاء في نص آشوري كُتِب سنة 650 قبل الميلاد "إذا اتفق لحظة التلبس أن يكون المرء جالساً.. واختلج الجانب الأيسر من جسده كنعجة مذبوحة، فذلك هو الشيطان ميغتو".

وبحسب الكتاب، فإنَّ المقاربات المختلفة للإنسان، حتى ظهور التفكير العقلاني مع إطلالة "عصر أثينا الذهبي" وولادة الفلسفة حوالى القرن السادس قبل الميلاد، ظلت تصوره بلا إرادة واعية وبلا نفس psyche. فأبطال الإلياذة مثلاً "ليسوا سوى دمى في قبضة قوى رهيبة تضطلع بالعقاب والانتقام والتدمير.... ولم تكن للحياة الداخلية وخياراتها وضميرها المعذب وجود حاسم" في الأساطير والملاحم التي سبقت كتابات اسخيلوس وسوفوكليس وبروبيدس، الذين تشخص أعمالهم الدرامية "ذواتاً واعية لتأملاتها الداخلية ومسؤولياتها وذنوبها". ثم جاء الطب اليوناني المتأثر بأبي الطب، أبقراط (ت 370 قبل الميلاد)، ليدحض التفسيرات فوق الطبيعية للتلبس والصرع والجنون، وليتعامل مع هذه الحالات باعتبارها مباحث طبيعية لا تختلف في نشوئها عن بقية أمراض الجسد البشري.

لكن هذا الخط العقلاني الصاعد في مقاربة الشذوذات العقلية لم يُكتب له مواصلة مسيرته نحو مزيد من الكشوفات فكان أن انتكس مع تبني الامبراطور قسطنطين المسيحية كديانة رسمية للامبراطورية الرومانية انطلاقاً من 313 ميلادية. بعدها، وبفعل سيادة الكنيسة التي، بخلاف الفلسفة اليونانية، لم تكن ترى في العقل جوهر الإنسان، "مُنِحَ التفكير حول الجنون بوصفه ظاهرة فوق طبيعية مشروعية وسنداً لعدة قرون قادمة".

كما رسخت الكنيسة فكرة "أن الجنس البشري مغمور بالكائنات الروحية الأخروية ممثلة في الرب والملائكة والقديسين وأرواح الموتى والشيطان وأعوانه. فضلاً عن الأشباح والعفاريت التي تمتلئ بها حكايات الفلاحين" التي ساهم نمط التفكير المسيحي ما فوق الطبيعي في إقرارها وتكريسها.

هكذا أخذت الكنيسة على عاتقها معالجة هذه الأمراض بواسطة مباركة القسيسين للمصروعين والممسوسين والمجانين، وراحت المعتقدات الشعبية المتدينة تنظر إلى هذه الأمراض بوصفها ناجمة عن أسباب فوق طبيعية مما يفسر اللجوء لطرق علاجية من قبيل السحر وثقب الجماجم في حالة الإصابة بالصرع. كما كان التغطيس في الماء البارد طريقة رائجة لمعالجة الجنون.

ولم يقتصر التأثر بمثل هذه التفسيرات فوق الطبيعية على عامة الناس وحدهم، بل شمل كذلك الشخصيات البارزة والأطباء أنفسهم. ففي كتابه "تشريح السوداوية"، 1621، "عين رئيس كلية أوكسفورد، روبرت بيرتون، الشيطان مسبباً للأسى والانتحار". وبالمقابل، وجد الطبيب الإنجليكاني رتشارد نابير الذي كان "متخصصاً في شفاء أصحاب العقول المضطربة"، أن "العديد ممن راجعوه كانوا يعانون من القنوط من رحمة الله، والخشية من اللعنة التي أثارتها البيروتانية الكالفانية، فضلاً عن التخوف من غوايات الشيطان والخوف من الفتنة".

ثم ولّدت حرب الثلاثين عاماً 1618-1648، والحروب الطائفية في بريطانيا 1642-1651 ردود فعل كبيرة ضد التطرف الديني-السياسي الذي جلب الدمار والبلبلة للنظام العام وأمن الأفراد معاً. وصار التعصب الديني يعتبر من علامات المرض النفسي. كما تم ربطه بالصرع المعزو إلى فرط السوداء (black bile). ثم بعد نحو قرن من الزمن راح الطبيب وبطل التنوير الشهير إيرازموس داروين يشن حرباً لا هوادة فيها على صناع الفزع من القساوسة الذين يبشرون بالجحيم واللعنة ويتسببون بواسطة هذا الخطاب بإصابة المرضى الفقراء بالوساوس واليأس مما يدفعهم للإقدام على الانتحار. كما ألف جون لوك كتابه "معقولية المسيحية"، 1694، ليلح على ضرورة أن يلتزم الدين ذاته بالعقلانية والحس السليم. وأخذ مفكرو الأنوار يعدون التدين موضوعاً مرضياً، وهو نفس الموقف الذي سيتخذه فرويد من التدين فيما بعد.

هكذا نرى كيف دارت الدائرة على الكنيسة كما لو أن السحر ارتد على الساحر. فبعد أن كانت تشير بأصابع الاتهام فيما يخص الجنون إلى خطايا الإنسان تجاه الرب وتجاهها وإلى أفاعيل الساحرات وأحابيل الشيطان، انتهى بها المطاف إلى أن توضع هي ذاتها في قفص الاتهام ويلقى عليها اللوم في التسبب بإصابة المتدينين بالصرع والجنون وقتل أنفسهم. وسنواصل في المقالة القادمة عرض بقية محتويات الكتاب وإلقاء المزيد من الضوء على أبرز المحطات في تاريخ الجنون.

تعليق عبر الفيس بوك