جورج طرابيشي.. محطة أخيرة وموت ليس شيئاً على الإطلاق

فيصل الحضرمي

"المواجهة مع أعداء الحداثة ودعاة القدامة معركة طويلة وشاقة، وأعتقد أنها لن تستغرق أقل من خمسين أو مئة سنة مقبلة. ومواجهة هؤلاء "القداميين" لا يمكن أن تتم إلا من خلال كل منجزات الحداثة وفتوحاتها على صعيد العلم والفكر، كذلك من خلال الرجوع إلى نفس المواقع التراثية التي يدعون أنهم يتحصنون بها" (حوار مع جريدة الشرق الأوسط، 2008).

هذه المقولة المقتضبة توجز الرسالة والمنهج اللذين اتسمت بهما مسيرة المفكر السوري الكبير جورج طرابيشي الذي أفنى في خدمة الأدب والفلسفة والتراث ودفاعاً عن قضايا الحداثة والعلمانية والديمقراطية عمراً عاصفاً بالتمرد والتحولات ما لبثت شمعته السابعة والسبعون والأخيرة أن انطفأت في السادس عشر من هذا الشهر الحزين في باريس التي التجأ إليها نهاية السبعينات قادماً من أحب المدن إلى قلبه، بيروت المحترقة بنيران الحرب الأهلية اللبنانية، ليلتجأ أخيراً إلى موت لا يشبه الموت يضاف إلى "موته الصغير" وصمت نهائي يختم به صمته الأخير الذي احتجزته بين أسواره الصماء الصدمة التي سببتها له الأحداث الدامية التي يشهدها وطنه البعيد القريب منذ خمس سنوات كاملة.

فرَّ طرابيشي إذن بعقله الذي نذر حياته للذود عنه هرباً من هذا العبث المجنون الذي أخذ يضم إلى صفوفه حتى أقرب الناس إليه مغرقاً إياهم في أوحال الطائفية البغيضة التي أوغلتهم في القتل بدماء باردة وضمائر لا تستشعر هول إجرامها وتعمى عن رؤية الخطر الداهم الذي يتربص بالجميع ممثلاً في الموت الكبير الذي هو موت الوطن على حد تعبيره في نهاية آخر مقالاته: "إن شللي عن الكتابة، أنا الذي لم أفعل شيئاً آخر في حياتي سوى أن أكتب، هو بمثابة موت. ولكنه يبقى على كل حال موتاً صغيراً على هامش ما قد يكونه الموت الكبير الذي هو موت وطن".

نعم، لم يفعل طرابيشي في حياته شيئاً سوى الكتابة. كتب مترجماً ومؤلفاً في حقول معرفية مختلفة وجرب تيارات فكرية عديدة يقوده إليها في كل مرة أب جديد يقيمه بديلاً عن أب سابق ثبت فشله وقصوره عن تلبية اشتراطات المثال الكامل المتطلبة التي يُؤمثل بها الأبناء الواهمون آباءهم البشريين. بدأ طرابيشي قومياً وبعثياً، ثم صار معارضاً للبعث بعد وصوله للحكم، ثم انتقل من القومية إلى الماركسية، قبل أن يتعرف على الوجودية عبر جان بول سارتر، والتحليل النفسي عبر فرويد. وبعدها كان تحوله الأكبر من النقيض إلى النقيض: من الماركسية إلى الليبرالية، ومن الأيديولوجيا إلى الإبستيميلوجيا، أو نظرية المعرفة، التي قاده إلى عوالمها المفكر المغربي العملاق محمد عابد الجابري عبر كتابه "نقد العقل العربي". سينبهر طرابيشي بالكتاب في البداية، وسيصفه بالمثقِّف والمغيِّر، لكنه سيتهمه لاحقاً بالانتهازية وتوظيف المناهج الحديثة لخدمة أيديولوجيا مبطنة تزعم وجود انشطار في العقل العربي بين شرقي عرفاني أدنى وغربي عقلاني أعلى. وسينفق ربع قرن كامل في إعادة تأسيس ثقافته في التراثين العربي واليوناني للرد على الجابري وسيتكلل الجهد الكبير برفد المكتبة العربية بموسوعة "نقد نقد العقل العربي" التي تمثل اليوم مرجعاً بارزاً في حقل دراسات نقد التراث.

هذه الأوديبية التي لا تكف عن الانقلاب على الأب تلو الآخر -بداية بالأب الطبيعي الذي تمكن طرابيشي أخيراً، بمعونة علم النفس، من مصالحته على مستوى الضمير والوجدان، مروراً بالأب المسيحي، ثم الأب القومي والماركسي متمثلاً في أسماء مثل عفلق وعبد الناصر وماركس، وانتهاءً بالأب الابستمولوجي الذي كان الجابري على وشك أن يكونه قبل أن يغير طرابيشي رأيه بخصوصه إلى الأبد- وما يترتب عليها من انتقال دائم من درب إلى درب إلى درب، يشكلان المفتاحين الأبرز لفهم شخصية طرابيشي الذي يحدثنا في آخر مقالة كتبها: "ست محطات في حياتي"، المنشورة في فبراير 2015، عن أبرز الأحداث التي شكلت وعيه ومثلت له، في أغلبها، نقاط انطلاق فعلية نحو طرابيشي الذي سيكونه لاحقاً، بينما شكلت المحطة السادسة، المتمثلة في المأساة السورية، محطة نكوص وانزواء وموت مصغر.

بدأ طرابيشي حياته مسيحياً مفرط التدين إلى أن جاءت اللحظة التي أدرك فيها أن الرب لا يمكن أن يكون بتلك القسوة والعسف الذين يصوره بهما الكهنة، بما فيهم مدرسة الكاهن الذي نفره من الدين، والمؤمنون المتشددون، فكان أن ترك المسيحية إلى غير رجعة. ثم جاءت المحطة الثانية التي تعلم فيها أن مشكلة الوطن العربي لا تحل بمجرد تصويب الوضع السياسي ، بل ينبغي إحداث تغيير على مستوى العقليات قبل أي شيء آخر. ثم تعزز هذا الموقف في المحطة الثالثة بعد مناقشة حادة حول جرائم الشرف مع عدد من الزملاء الثوريين المنادين بالتقدمية والذين تكشفوا حينها عن مجموعة من المحافظين ذوي الأفكار الرجعية رغم تقدميتهم المعلنة. ثم جاء اكتشافه لفرويد ليمثل المحطة الخامسة التي دفعته لترجمة أهم أعماله إلى العربية وتطبيق منهجه في التحليل النفسي في مجالي النقد الروائي ونقد المثقفين العرب. أما المحطة الخامسة فتمثلت في تعرفه على الجابري وما تلاه من تحول في مساره الفكري.

هكذا يكون رحيل طرابيشي بمثابة المحطة الأخيرة في حياة مفكر ومترجم وناقد أدبي مثل للكثيرين أيقونة العقلانية والتنوير والحداثة في واقع عربي منكوب بالألم والتشاؤم. وعزاؤنا أن أمثال طرابيشي لا يموتون حقاً بقدر ما ترحل عنا أجسادهم التي طالما وهبوها لما آمنوا به بصدق وإخلاص تاركين لنا إرثهم الذي يبقينا متصلين بهم على الدوام. أو كما يقول الشاعر الإنجليزي هنري سكوت هولاند، الذي خطت كلماته الخالدة على ظهر صورة لطرابيشي يظهر فيها مبتسماً ومفعماً بالصحة والعافية، وضعت على أحد المقاعد أثناء تأبينه في كنيسة سان جوليان لو بوفر: "الموت ليس شيئاً على الإطلاق، لقد انسحبت وحسب إلى الغرفة المجاورة.. لا تتصرفوا بشكل شعائري أو حزين.. استمروا في الضحك على ما كان يضحكنا معاً".

تعليق عبر الفيس بوك