الصراع الخفي على المناهج الدراسية بعد الربيع العربي

د. سيف المعمري

لم يؤدِ الربيع العربي إلى عدم استقرار في الحياة الأوضاع الأمنيّة والسياسية فقط؛ بل أدّى أيضا إلى صراع خفي حول مضامين المناهج التربوية في الدول التي عرفت الربيع العربي، ففي الوقت الذي ركزت وسائل الإعلام على تغطية الأحداث السياسية لم يحظ الربيع التربوي العربي باهتمام ممثال. وقد يعتقد البعض أنّ الحكومات المتصارعة في تلك الدول لم يكن لديها وقت توجهه للمناهج التربوية في ظل انشغالها بمعاركها السياسية وسعيها لتوطيد نفوذها، فالمدرسة لم تكن في السابق مهمة حتى تصبح مهمة في مثل هذه الظروف المربكة التي لا أولوية تسبق أولوية تحقيق الأمن والاستقرار، ولكن الغريب فعلا أنّ هذه القوى كان لديها من الوقت ما لم يتوقعه أحد، ليس لأنها تؤمن بأهميّة المدرسة ودورها في بناء الإنسان مصدر القوة الوحيد عند كل المجتمعات المتقدمة، فلم يوجد بعد من يؤمن بقيمة الإنسان وأهميته في نهوض المجتمعات العربية، الإنسان العربي كان وسيظل مجرد وسيلة لتحقيق مكاسب سياسية، وسيلة لخدمة أغراض قوى سياسية ودينية واقتصادية، ومن هنا تبرز لدينا علامات الاستفهام للسعي المتواصل لتغيير مضامين كتب التاريخ والتربية الوطنية أو تلك المضامين المرتبط بشخصيات كان لها دورها في حركة الربيع العربي؟

إنّ هذا الملف لا يزال غامضًا لا تتوافر حوله الكثير من البيانات، لأنه كان يجري في الظل والناس جميعهم منشغلون بما يجري في الساحات الإعلاميّة والسياسية، ولكن ما جرى الأسبوع الماضي من نقاشات حادة حول تغيير حقيقة تاريخية بدوافع سياسية في منهج اللغة العربية للصف الخامس بمصر يبدو أنّه سيقود هذا الملف للواجهة، حيث تمّ حذف اسم الدكتور محمد البرادعي من قائمة المصريين الحاصلين على جائزة نوبل في المنهج، يأتي هذا ليعطي مؤشرًا قاطعا على أدلجة المنهج الدراسي في كثير من البلاد العربية، واستمرار أقوى للنهج الذي كان سائدًا قبل مرحلة الربيع العربي، فالمنهج الدراسي كان مضمونه ولا يزال تكتبه السلطة القائمة التي لها الحق الوحيد في تقرير الحقائق التاريخية أو تغييرها، وهي الوحيدة التي تحدد نوعيّة المعرفة التي يجب أن تدرس في المنهج للطلبة من أجل صياغة عقلهم، مما يقود إلى تزييف في الوعي، وإعاقة للعقل عن التفكير طالما هناك من يفكر عن هذه الجموع، ويتمتع بالعصمة الإلهية التي تجعله دائما على صواب في الوقت يكون فيه الآخرون دائماً على خطأ.

إنّ حركة تغيير المناهج خلال السنوات الماضية كانت تعبر عن صراع أيديولوجيّات سياسية ودينية تريد أن تستفرد بحق كتابة المناهج وفق رؤيتها، واستعراض بعض الأمثلة من دول الربيع العربي سيكشف عن تلك المحاولات المستميتة التي أعاقت الفعل التربوي المستنير في لحظة صراع تحتاج إلى مضامين السلام وقبول الآخر وإلى قيم الأخوّة والحفاظ على التماسك، ففي مصر أثناء فترة حكم الإخوان كان الاتجاه إلى إضفاء الطابع الديني على المناهج، فعلى سبيل المثال في منهج الصف الأول الابتدائي تمّت إضافة درس بعنوان "ثورة العصافير" التي تمجد دور الأخوان في ثورة (25) يناير، وغير غلاف التربية القومية ليحمل صورة تضم قيادات الإخوان، وأضيفت وحدة متكاملة في مناهج الدراسات الاجتماعية لمرحلة التعليم الأساسي عن ثورة (25) يناير مع التركيز على تاريخ جماعة الإخوان وإنجازاتها، كما ضمنت لفظة الجماعة في منهج التربية الوطنية للصف الأول الثانوية، وحذفت صور الرئيس السابق وزوجته وكل ما يتعلق بهم من إنجازات في منهج الدراسات الاجتماعيّة.

وحين جاء عبد الفتاح السيسي تمّ حذف درس "ثورة العصافير" ودورس أخرى من أهمها "الإسلام والنظام السياسي" من منهج الصف الثالث، كما حذف درس "صلاح الدين" من منهج اللغة العربية للصف الخامس، وحذفت ستة فصول من قصة عقبة بن نافع فاتح أفريقية من منهج اللغة العربية للصف الأول الإعدادي، وأعيدت صياغة بعض الدروس كتاب التربية الوطنية للصف الثالث الثانوي، وحذف العبارات ذات الصلة بجماعة الإخوان المسلمين، وهذه بعض الأمثلة فقط ولا تزال عملية الحذف والتغيير مستمرة، تزيد من حدتها مجريات الحياة السياسية.

أمّا في ليبيا فقد تمت إزالة تأثير فكر النظام السابق الذي استمر لمدة ثلاثين عاما حيث تم إلغاء كل ما يتعلق بالكتاب الأخضر الذي كان مادة إجباريّة تمجد فكر القذافي وعهده، وحذفت مادة التربية الجماهيريّة والثقافة السياسيّة واستبدلت بمادة التربية الوطنية التي تحاول أن تضمن القيم الديمقراطية وحقوق الانسان والتعددية والانتخابات وغيرها من القيم، وتمّ السماح بتدريس اللغات الأجنبية، ونتيجة لاستمرار أوضاع الصراع الحالية في ليبيا والتي دمرت كثيرا من المدارس، فالباب مفتوح لمزيد من التغييرات في المنهج المدرسي سيكتبها من يفرضون سلطتهم ونفوذهم.

أمّا في اليمن التي تشهد صراعًا عسكريًا وسياسيًا مستمراً، فإنّ محاولة تغيير المناهج لا تزال مستمرة، وقد نشرت بعض الصحف تقارير عن ذلك - تتطلب مزيدًا من التثبت- حيث أشارت جريدة الشرق الأوسط في تقرير لها بعنوان "منهج جديد للحوثيين يتضمن فكرهم المتطرف" نشر في (24) أكتوبر 2015، أنّ منهجًا جديدًا أعد للصفوف من الأول حتى التاسع يتضمن صور مؤسس الجماعة حسين بدر الدين الحوثي وكذلك يتضمن خطب الجامعة ورؤيتها السياسية، بل إنه تمت الإشارة إلى بعض مضامين منهج الرياضيات الذي يعطي أمثلة رياضيات قائمة على الحرب والأسلحة، مثل "اشترى محمد 3 بنادق يوم الجمعة، وفي يوم الأحد اشترى 4 بنادق، فما مجموع البنادق التي اشتراها محمد"، وحتى لو كانت مثل هذه التقارير جزءًا من الحرب الإعلاميّة الدائرة الآن إلا أننا لا نستبعد أن يتم تطبيقها من قبل أي جهة تحسم المعركة لصالحها، أمّا تونس فكانت البلد العربي الوحيد الذي حافظ على مضامين المناهج رغم تعاقب أربع حكومات عليها في السنوات الخمس الماضية، ولكن تغييرًا طفيفًا طال كتب التاريخ والمواد الاجتماعية، حيث تمّ في أعقاب الثورة حذف تاريخ انتقال الرئيس السابق زين العابدين بن علي للسلطة بعد عزل الرئيس بورقيبة لأسباب صحيّة.

وفي ضوء ما تقدم، يبدو أنّ الساحة التربوية العربية التي تعاني اليوم من "ضمور في الخطاب الإنساني، واهتراء في الخطاب المعرفي" على حد تعبير الدكتور سالم الأبيض وزير التربية الأسبق وعضو البرلمان الحالي في تونس، ستظل مفتوحة لكثير من محاولات الحذف والإضافة من قبل الجماعات السياسية الغالبة وبالذات في مناهج التاريخ والدراسات الاجتماعية والتربية الإسلامية، وكأنّ السيطرة على الأرض تتطلب أيضًا سيطرة على عقول آلاف الطلبة وإلغاء أي نزعات للتفكير المنطقي والناقد فيها، فالتعليم لا يزال مشروعًا "لملء جردل لا مشروعًا لإشعال حريق" من التساؤلات والإبداع والتحقيق في كل ما يعرض، وإذا استمرت الحكومات تنظر إلى المنهج نظرة ضيقة تجعله وسيلة للتضليل بدلا من أن يكون وسيلة لتحرير الإنسان، وتزويده بأدوات مقاومة الايديولوجيات الطائفية التي تحاول السيطرة عليها لإفشال أي مشروع لبناء مجتمعات المواطنة، فعلينا ألا نبالغ في التفاؤل بالغد، لأنّ الغد يفترض أن يصنع ويعيشه هؤلاء الأطفال الذين تكتظ الصفوف الدراسيّة بهم.

تعليق عبر الفيس بوك