الثقافة السياسية والتراثية والتاريخية ضرورة لفهم السياسة العمانية

د. إسماعيل الأغبري

تميَّزت عُمان عن غيرها من محيطها بمُميزات كثيرة سياسية وفكرية وجغرافية.
فمن حيث العُمق الوجودي فعُمان أسبق وجودًا من غيرها إذ لم تكن حديثة السن ولم تُولد ولادة قيصرية ولم تنشأ على حين غفلة بل حضارة عميقة في الوجود قبل الإسلام أيام حضارات سومر وأكاد بالعراق والقبط بمصر وفارس إيران.
وعمان اختصها النبي بخطاب ورسالة منه إلى ملكيها عبد وجيفر من بين ثلاث حضارات آنذاك فارس والروم والقبط ولم يخاطب النبي غيرها من الدول لعدم ميلاد تلك الدول آنذاك.عُمان من حيث الجغرافيا شملت أجزاءً واسعة من قارتي آسيا وأفريقيا وقطعًا كانت معظم الجزيرة العربية تحت إدارتها بل بلغت أجزاءً ممتدة إلى الهند والسند وكان ولاة بلدة المنصورة بالسند أيام الإمام راشد بن سعيد اليحمدي من عُمان بل قشم وبندر عباس كانت من امتدادات عُمان.
بلغت عُمان شأوًا عظيمًا أيام اليعاربة، فلم يُحرروا عُمان فقط من الاحتلال البرتغالي بل حرروا الجزيرة العربية منه ثم دخلوا أيام الإمام سيف بن سلطان قيد الأرض الهند بعد استغاثة أهلها بهم كان تحريراً خالياً من آيدلوجيات استحلال فصل الرؤوس عن الأجساد وأحكام التكفير والتفجير.

امتد اليعاربة فاتحين تلبية لرغبة الأفارقة في شرق أفريقيا وما حولها، فكانوا برداً وسلاماً لا عمليات انتقام وزرع آيدلوجيات بقوة السلاح وسطوة المال ودعاية وسائل الإعلام وتجارة بالدين رابحة.

بلغ العمانيون جنوب شرق آسيا كماليزيا وأندونيسيا ونشروا الإسلام وساسوا النّاس بالعدل ونعمت سومطرة على أيدي أهل عمان بدين الله ومن يرد التعمق في معرفة الدور الريادي للعمانيين في جنوب شرق آسيا يمكنه قراءة كتاب "العمانيون والملاحة والتجارة ونشر الإسلام في جنوب شرق آسيا" للدكتور رجب عبد الحليم.

وبلغ العمانيون بسياستهم وموروثهم الثقافي جنوب آسيا وتحديداً الصين في القرن الثاني الهجري ومن أشهر الدعاة والتجار وناشري الإسلام في الصين الفقيه والتاجر العُماني أبو عبيدة الصغير عبد الله بن القاسم.

أما أفريقيا فقد سادوا أفريقيا قيادة سياسية ونشروا الإسلام واللغة العربية والأعراف والعادات والتقاليد وكل ذلك بالسلوك والقدوة والقيم والأخلاق وليس بسطوة الملك ولا قهر الحكم وغطرسة السلطة أي لم تقم حكومة عُمان في عهد الأئمة والسلاطين باستغلال حاجات النّاس وإرغامهم على اعتناق فكر ودين السلطة والمعونات تقدمها عُمان من باب الإنسانية وليس من باب تمدد الملك وإكراه النّاس على فكر مُعين ولا تزال النزعة الإنسانية تتجلى في مسلك جلالة السلطان إذ يغلب على سياسته الأبعاد الحقوقية والإنسانية عُمان بلغت أيام السيد السلطان سعيد بن سلطان مبلغًا صعبًا مناله، وصارت لها عاصمتان الأولى مسقط في آسيا والثانية زنجبار في أفريقيا.
السيد سعيد جلب معه إلى أفريقيا الماء والخضرة عنوان الحياة زرع القرنفل وأحيّا الأرض بعد موات بخلاف من يزرع الأرض قنابل موقوتة ومفجرات تحصد الأرواح وأسلحة عنقودية وفسفورية تصب حمماً على شعب فقير.

عمان لم تفرخ إرهاباً ولم تدعم إرهاباً ولم تعتمد سياسة الأرض المحروقة.
عُمان كيان سياسي قديم قائم وليس مجرد تجمعات وأحراش هنا وهناك.

عمان بلغت في الشأن السياسي خبرة وحنكة عزّ نظيرها في بلاد العرب علاقات مع الجميع حتى يومنا هذا حسنة وصلات مع الدول الإقليمية والعالمية ما عجزت عنه دول العالم العربي والخليج خاصة.

لا توتر في العلاقات ولا خصومات وعهد جلالة السلطان شاهد حي وممارسة عملية يعيشها الإنسان العماني.
إنّ السلطان قابوس وريث ذلك المجد من أسلافه من أئمة عُمان وسلاطينها فهو من سلالة تربعت على كرسي الحكم منذ قرون آخرهم يحذو حذو أولهم لأنّ المنهج السياسي في العلاقات منضبط بضوابط عدة منها الشريعة الغراء واعتماد خطاب حقوقي وإنساني مع القريب والبعيد بغض النظر عن اللون أو العرق أو الجنس أو القومية أو الدين أو الفكر.

لم يحدث أن شنّ ساسة عُمان عدوانا على جار من الدول أو بعيد منهم رغم صيرورة عمان سيدة البحار ورغم صيرورتها إمبراطورية شملت آسيا وأفريقيا والأصل أنّ من صار إمبراطورية قهر النّاس بعسكره وفرض عليهم إرادته وتوسع بالدم والسيف والسبي والقتل بينما ساسة عُمان يكتفون بدفع الغزاة عنهم ومنازلة من طغى عليهم من الدول وتجبر وهو حق مكفول في الشريعة الإسلامية مؤكد عليه في المواثيق الدولية.

سلطان بن سيف وسيف بن سلطان يدخلون الهند وأفريقيا لكن دون مجازر مع أنّهم الغالبون.
أحمد بن سعيد يدخل البصرة بعد استنجاد أهلها فيكتفي بالتحرير دون إثخان وقتل وتطهير عرقي أو فكري.

السيد سعيد بن سلطان يتمكن في أفريقيا فيجمع في دولته العماني والعربي والأفريقي والمسلم وغير المسلم ثم لا يمارس إقصاء على أسس اللون أو العرق أو الجنس أو القومية وهذا يفسر لنا سر منهج جلالة السلطان وخطابه الإنساني في علاقاته الدولية والإقليمية.

فطر ساسة عُمان على مبدأ الحقوق ومراعاة الجوانب الإنسانية المادية والمعنوية فلا اعتداء منهم على أحد ما لم يعتد عليهم غازياً أو مستعمرًا فإن فعل ذلك لزم جهاده ووجب دفعه من أرضنا وإخراجه وهو ما فعلوه مع الفرس قبل الإسلام وما قاموا به ضد جيوش الحجاج بن يوسف الثقفي أيام سعيد وسليمان ابني عباد بن الجلندي ونازلوا جيوش السفاح العباسي الذي غزاهم أيام الإمام الجلندي بن مسعود ثم قاوموا غزو هارون الرشيد أيام الإمام الوارث بن كعب الخروصي.

ذادوا عن عمان الأرض والعرض والسلطة والفكر عندما غزا البرتغال عمان حتى تم جلاؤهم من أرضنا.

كما ذاد أهل عمان ساسة وشعب عن عُمان الأرض والعرض والفكر عندما داهم أرضهم غزاة أيام السيد سعيد بن سلطان ثم الإمام عزان بن قيس البوسعيدي.

إن ساسة عمان يقدمون السلام على غيره ويبذلون العفو إن قدروا وتمكنوا ولا أدل على ذلك من عفو جلالة السلطان قابوس بعد القدرة والتمكن والنصر الأكيد عام ١٩٧٥ اذ لم تنصب في عهده أعواد المشانق ولم تفصل الرؤوس عن الأجساد .وتكرر عفو جلالة السلطان بعد التمكن والقدرة أيضا وعلى سبيل المثال عام ١٩٩٤.

لقد سردت ذلك لأمور منها بيان ما عليه الشعب والساسة من سجايا السلام وبسطه للجميع ومنها أنّ السلام الذي اختارته قيادة جلالة السلطان هو خيار متأصل من عهد أسلافه أئمة وسلاطين عُمان فهو خيار استراتيجي وليس خيارا تمليه الظروف أو تفرضه قوة عظمى أو بسبب الخضوع لمُنظمات عالمية.
لقد أكد السلطان في خطاب له أنّه اختار السلام وأنّه يجب أن يترك العمانيين بسلام وأن خيارهم ليس عن ضعف بل هو مبدأ وقيمة وأكد أنّه إذا ما تم الاعتداء على عُمان فإن عُمان تفدى بالدماء.
ومن ذلك نستفيد أن عمان يجب أن تُصان سياسة وجغرافيا وفكرًا وأن حماية اقتصادها كحماية الجغرافيا والموقع.
ونستفيد أيضًا أنّه يجب علينا أن نصد كل شائعة اقتصادية أو سياسية تستهدف ضعضعة أمر عُمان وأنه يجب أن يكون الشعب واعيًا لهذه المواقع والمنظمات المدفوع لها الثمن وأنه يجب على الشعب أن يعي أن هناك من لا يرغب أن يكون قرار عُمان بيدها وأنّ هناك من يزعجه قول عُمان لا فيما لا ينسجم مع خيار السلطنة وأن هناك من لا يسره قدرة السلطنة على نسج علاقات متوازنة مع الدول الإقليمية والدولية وأن هناك من لا يرغب في استقرار البلاد رغبة منه في تحقيق أطماع سياسية وجغرافية وفكرية واقتصادية.
وأنّ هناك من يخشى أن تصير السلطنة قوة اقتصادية خاصة وأن موقعها المميز وتاريخها البحري يمكنها من أن تصير كذلك إن أحسن أهلها استغلال واستثمار ذلك.
إنّه يلزم على العُماني أن يصلح الخطأ وينبه عليه ويبلغ عنه ويلزم على من وسد أمراً أن يخدم عُمان سياسة واقتصادًا لكنه أيضًا يلزم أن نُحذر من ترويج الإشاعات التي تستهدف عمان أمنا الكبرى.

إنّ الوعي السياسي بات ضرورة ملحة لكي نعرف دهاليز هذه السياسة الإقليمية والدولية فدول لا يروق لها حتى زيارة أمين عام منظمة الأمم المتحدة لتقديم شكر لها.

دول لا يروق لها تسلم معالي الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية جائزة سانت جورج في ألمانيا لما يقوم به من سعي حثيث من أجل دعائم السلام ترجمة عملية لمنهج اختط معالمه جلالة السلطان وارتضاه خارطة طريق وخياراً إستراتيجيا.

أخيرا بقراءة التراث والتاريخ والموروث الثقافي يمكن لكل عماني أن يفهم سر استقلال القيادة العمانية في مواقفها وتميزها عن غيرها .. إنّ العراقة والميراث والأقدمية والعمق في التاريخ والتراث لها أثر في نجاح السياسي في سياسته.

تعليق عبر الفيس بوك