هل نحن بحاجة إلى وزارة لتطوير التعليم ؟ ( 9 من 9 )

المحافظة على هوية مجتمعاتنا من المسخ والذوبان

مرتضى بن حسن بن علي

تجتاح العالم المتقدم ثورة تكنولوجية كاسحة، تعبر الحدود بدون قيود وينتج عنها أو يصاحبها تغير في طبيعة المعرفة ذاتها وفي جميع مناشط الحياة وعلى جميع الأصعدة، الأمر الذي يستلزم إعادة النظر في مسلمات الفكر وطرائقه التي تعودنا عليها. والثورة التكنولوجية التي تجتاحنا تختلف عمّا شهدته البشرية سابقاً وتنطوي على أذى للأقطار النامية والأقل استعداداً للتقدم والأكثر ميلاً لمقاومة التغيير، حيث تحيل عددًا متزايداً من النشاطات الاقتصادية إلى مشروعات لا جدوى منها. والتقدم العلمي واكتشافاته ونتائجه، إذا لم نتمكن من استيعابها، سوف تقوم بتهميش اقتصاديات الأقطار النامية وتلغي وظائف عديدة وتستحدث وظائف أخرى مختلفة، علماً بأنّ أكثر الوظائف التي يعمل بها العدد الأكبر من شبابنا وشاباتنا هي الوظائف الإدارية والكتابية وغيرها من الوظائف الوسطى، وهي ذات الوظائف المهددة بالتراجع المستمر ثم الانقراض أمام زحف التكنولوجيا. وإذا لم نتدارك كل ذلك فإنّ التكنولوجيا الحديثة سوف تكون عبئًا يثقل كواهلنا. وكيفية إدارتنا لمواردنا البشرية والتكنولوجية والعلمية، تلعب دورا كبيرا في تحديد قراراتنا لمواجهة التحولات العالمية المتسارعة. كما تفرز تلك الثورة العارمة تداعيات أخرى عديدة منها التغير الاجتماعي المتسارع، وما ينتج عنه من تغيرات وتبدلات في مفاهيم القيم والمعايير والبيئة الاجتماعية للعمل والمؤسسات والعلاقات الاجتماعية ونوعية فرص العمل. فالتغيرات التي تحصل ليست من جيل إلى آخر كما عهدنا في الماضي، ولكنها في حياة نفس الجيل ولمرات عديدة. كما يترتب على تلك الثورة انفتاح إعلامي ثقافي حضاري غير مسبوق. فوسائل الاتصال السريعة بل والآنيّة، تعبر الحدود بلا قيود برسائلها ومضامينها، من أيّ مجتمع لأي مجتمع آخر إلى درجة تصبح وسائل الرقابة التقليدية، أدوات بدائية عديمة الكفاءة أو قليلة الفاعلية ضد استقبال محتويات الرسائل الإعلامية والثقافية الوافدة من مجتمعات وثقافات أخرى. إنّ التحصين الحقيقي في مواجهة هذا التدفق التكنولوجي الإعلامي الثقافي هو وعي الفرد والمجتمع وقدرتهما على الفرز النقدي وفي قدرات وسائل الإعلام والتعليم الحديث والثقافة الوطنية على تقديم بدائل أكثر جدية ومصداقية وجاذبية وأكثر قدرة على فهم واستيعاب التغيرات. وهذه المهام تتجاوز قدرة تلك الأجهزة كما عرفناها في الماضي، وكما نعرفها الآن في مجتمعاتنا. فهذه المهام تتطلب أنظمة وأجهزة تعليمية وثقافية وإعلامية خلٌاقة ومعاصرة ومقتدرة، إذا كان لها أن تحافظ على هوية مجتمعاتنا الحضارية القومية وتحفظها من المسخ والذوبان وفي نفس الوقت الذي لا تتحول المجتمعات إلى متاحف تراثية منغلقة وجامدة. وكل ذلك يستدعي وبسرعة إحداث تغيرات في تلك الأنظمة، ولاسيما النظام التعليمي المعني وعلى الأخص التعليم الثانوي.. فالتعليم الحديث المعاصر والمستجيب لاحتياجاتنا، في يومنا وغدنا.هذا التعليم الثانوي عليه أن يساهم بشكل فعال ومؤثر في عملية استيعاب التغيرات التي تجتاح العالم، عن طريق تعلم طرائق التفكير وعبر غرس الروح النقدية عند الطلبة في المرحلة الثانوية، نظرًا لما يتميز به طالب هذه المرحلة من خصائص معينة ترتبط بطبيعة المرحلة العمرية التي يمر بها. والتعليم الحديث كما أسلفنا يسير باتجاه تعليم الطالب عدد متنوع من المهارات مثل القدرة على التكيف والمرونة والقدرة على التعامل مع التغير السريع والقدرة على نقل الأفكار والقدرة على استشراف التغير والاستعداد له والتهيؤ للتفاعل معه بشكل واعٍ والتأثير فيه، والأطلال بالفكر على المستقبل وإدراك احتمالاته وتوقي مفاجآته وبلوغ غاياته. كما يتعين على المدرسة الثانوية تنمية أخلاقيات العمل عند الطلبة وغرس روح الفريق والعمل على التخطيط لإيجاد الحوار البناء والمناقشة الحرة المسؤولة بعيدة عن الآراء القطعية غير القادرة على التفاعل والحوار سواء داخل المدرسة أو خارج أسوارها، وغرس مفاهيم التعلم المستمر مدى الحياة ، أيّ التعلم الذاتي بأبعاده المختلفة وتعويد الطلبة طرق ومناهج التفكير العلمي في التعامل مع القضايا الفكرية والعملية والمجتمعية والحث على قيم التسامح وقبول الآخر وتنمية الثقافة الوطنية والروح الوطنية، وغرس مفاهيم المواطنة الصحيحة، إضافة إلى قيم المحاسبة والشفافية. كما تتطلب العملية تنويعاً واسعًا في التعليم الثانوي عن طريق إتاحة الفرصة لدراسة مواد اختيارية تحسب لها درجات، إضافة إلى المواد الإلزامية، وتعليم بعض المواد الإنسانية في الصفوف العلمية، وتدريس العلوم والرياضيات في الأقسام الأدبية.

إنّ التاريخ يأتي دائمًا ليقدم قوائمه بالفائزين والخاسرين. إنّ التغيرات الاقتصادية والتكنولوجية شأنها شأن الحروب والدورات الرياضية. لا تنطوي في العادة على فوز لجميع الأطراف. إن من ينتفع بالتقدم هي الجماعات والأمم والأوطان التي غدت قادرة على تطوير تعليمها بصورة مستمرة، وعلى تسخير العلوم والتكنولوجيا والثقافة لمصلحتها فيما يلحق الضرر بالبلدان الأخرى الأقل استعدادًا للاستجابة للمتغيرات التعليمية والتكنولوجية والثقافية والعلمية. ____________________________________________________

وفي الختام، أود القول إنّه طالما لم نتوصل إلى حلول لمشاكلنا التعليمية، كما في العديد من المشاكل الأخرى، فمعنى ذلك أن هناك خطأ أو نقصاً في التشخيص، وتظل إعادة الفحص ضرورية خصوصاً بما استجد من وسائل وأدوات قادرة على الإحاطة بكل الأبعاد والنفاذ إلى أعماق المشاكل التي نواجهها.

ثم تبقى جملة واحدة، أتمنى فيها ألا أكون قد فعلت في مقالاتي التسعة هذه مثلما فعل ذلك الشيخ الفقيه الذي قيل عنه قديمًا إنّه "فسر الماء بعد الجهد بالماء".

appleorangeali@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك