سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟ (32) الشراكة

د. صالح الفهدي

استهلّ رئيس إحدى اللّجان المجتمعيّة بقوله: أبلّغكم عتاب وكيل الوزارة على اللجنة لعدم فاعليتها في المجتمع، فردّ عليه أحد الأعضاء: بل أرجو أن تبلّغه عتابنا نحن أعضاء اللجنة عليه لعدم تطبيق أيّ من التوصيات التي تضمنتها محاضر اللجنة، فهل نحن مجرّد سعاة نوصل الرسائل من وإلى الوزارة، أم أننا نمثّل المجتمع تمثيلا حقيقيا؟!.

العلاقة بين المواطن والحكومة علاقة مصيرية إن هي سارت في مسار واحد تآلفت وتوثّقت عراها، وإن هي تباينت في توجهاتها ومساراتها تمزّقت الوشائج، وتقطّعت الوصائل. الحكومة إنّما هي مديرة السياسة الوطنية، ومدبّرة المصير الشعبي، وقائدة المسيرة الحضارية، فنجاحها مرهون بخلق شراكة فاعلة مع المجتمع أفرادا ومؤسسات. أما المواطن الحقيقي فهو ذلك الذي يمارس دوره الأصيل في المواطنة من أداء الواجبات والتعاطي بإيجابية مع شتى القضايا الإجتماعية، يعتوره الشعور بأنه والحكومة كل متجانس، متناغم. من هنا تتحقق المعادلة الوطنية القائمة على متلازمة الحقوق والواجبات. هذه العلاقة وحدها هي التي تضمن الوحدة الوطنية الماضية قدما إلى تحقيق الأهداف والبرامج الذي وضعت من أجل التنمية. وليس غريبا أن يضع جلالة السلطان -حفظه الله ورعاه- مبدأ الشراكة أساسا لحكم البلاد ويوضحه بصورة جليّة مخاطبا المواطنين عام 1970:"كما تعلمون أنه بدون التعاون بين الحكومة والشعب، لن نستطيع أن نبني بلادنا بالسرعة الضرورية" ويضيف قائلا:" إن الحكومة والشعب كالجسد الواحد، إذا لم يقم عضو منه بواجبه اختلّت بقية الأجزاء في ذلك الجسد. إننا نأمل أن نكون عند حسن ظنّكم كما نأمل كذلك وفي نفس الوقت أن تكونوا عند حسن ظنّنا". هذا القول لا يحتاج إلى مزيد من التبيان في أن القضية هي حق وواجب، وأخذ وعطاء، وهي أجمعها في نطاق الجسد الواحد يقوم بجميع أعضائه لإنجاز أهداف موحّدة.

إن أهم عنصر للشراكة بين الحكومة من جهة وبين المواطن والمجالس التشريعية ومؤسسات المجتمع من جهة أخرى هو المصارحة، والمكاشفة والشفافية المبنية على أساس وطني خالص، لا تشوبها شوائب المصالح الشخصية، ولا تكدرها الاختلافات أيّا كان نوعها. هذا العنصر يعتبر دليلا على رغبة الحكومة لنهج طريق واضح، كما يعد إشارة على مدى جدية الحكومة في تفعيل العلاقة مع المواطن والمؤسسات الأخرى تشريعية أو اجتماعية أو اقتصادية.

وفي حديثنا المشترك حول قيمة الشراكة قال لي سعادة توفيق اللواتي عضو مجلس الشورى:"إن فكرة الشراكة هي لازمة من لوازم العلاقة البينية بين الحكومة من طرف وبين المواطن والمجالس التشريعية وغيره من المؤسسات من طرف آخر، وقد أكّد على هذا مولانا -حفظه الله ورعاه- في أكثر من خطاب، لكن كيف يمكن تحويل هذه الرؤية إلى برنامج وخطة عمل؟! هذا هو التحدي. الشراكة تحتّم طرح أسئلة جوهرية في كيفية إدارة الموارد، والإنفاق، وتقييم الأداء، والنتائج، والإختلالات الإقتصادية، وما يشوب سوق العمل من إشكاليات، فضلا عن تزايد مستوى البطالة، وغير ذلك من القضايا الوطنية. الشراكة ليست مواسم وانتقاء بل مبدأ دستوري يعنى بالحقوق أولا قبل الواجبات.. الشراكة تعني التكافؤ بين الأطراف ولكن ألا يحق للشريك أن يتساءل عن الأسباب التي أوصلتنا إلى مرحلة ما ويقيم أداءه إن محسنا أو مقصرا؟! ألا يحق للشريك أن يسأل ماهي نتائج صرف أكثر من مليار على التعليم الأساسي؟ أليس من حقّه أن يسأل ماذا حققت الخطة الخمسية الثامنة مقابل كل ما صرف؟ أليس من حقه أن يسأل لماذا لدينا ٦٠ وزارة وهيئة في دولة عدد سكانها ٤ ملايين ونصف"؟!.

نعم الشراكة ليست مجرّد كلمة تقال، أو شعار يرفع، أو حوار يثار؛ الشراكة رابط وثيق بين الحكومة والشعب أفرادا ومؤسسات. أمّا مقتضيات هذه الشراكة فهي الحوار والاستماع والأخذ بالرأي السديد وليس تجاهله أو الإعراض عنه، والمشاركة الحقيقية في صنع القرار والمصير من أجل خلق قاعدة أكثر ثباتا، وأدوم نفعا.

إنّ عضو المجالس التشريعيّة والبلدية، والكاتب، والمحلل الاقتصادي، والباحث الاجتماعي، والمخطط الاستراتيجي، والشاعر والفنان، والناقد، والمواطن في عمومه يمثلون صوتا اجتماعيا نافذا ومؤثرا يستشرف آفاقا، ويعبّر عن تطلعات، فإن أصاخت لهم الحكومة آذانا وإن أخذت بأفكارهم البنّاءة، وإن طبّقت أفكارهم الخلاّقة فقد أوفت بعهدها في الشراكة، وإن هي تجاهلت أصواتهم، وأدبرت عن نداءاتهم فقد أوهنت عرى العلاقة، وأضعفت وشائج التواصل ووسّعت الهوّة بينها وبين الطرف الآخر..! وفي هذا النطاق تؤكد المنظمة الأروبية للتعاون الاقتصادي (OECD، 2009 ) بأنّه:"في عالم يزداد تعقيدا، فإن مشاركة المواطنين تعدّ أمرا حاسما لرسم السياسات. إن صنع القرارات الصائبة يتطلب المعرفة والخبرات والآراء والقيم من الشعب. كما أنّ تنفيذ القرارات الصعبة يعتمد على موافقة المواطنين ودعمهم. فإن لم يع المواطنون ويشاركون في صنع القرار بأنفسهم فإنّه من السهولة فقدان الثقة".

قال لي ذات مرّة أحد الوزراء بأنّه طبّق مقترحا كنت قد اقترحته في أحد كتاباتي حول أهميّة التواصل بين قمّة الهرم والقاعدة من الموظفين الصغار، فأصبح يلتقي في يوم محدد من الأسبوع بأحد الموظفين الصغار من مختلف الولايات وهو أمر حمدته عليه، وسعدت به قائلا له ليت كل مسؤول يأخذ بالمقترحات الإيجابية التي تخدم مبدأ الشراكة.

إنّ الحكومة التي لا تدرك أهميّة الشراكة بينها وبين المجتمعات لا تستطيع أن تحقق أهدافها في التنمية الحقيقية لأنها ستغدو طرفا واحدا يعمل، في حين يبقى الطرف الآخر مجرّد متلق للخدمة، متفرّج للأعمال، ناقد لها..!! أمّا التي تشرك المجتمع أفرادا ومؤسسات في مفاصل التنمية فإنّها ستستفيد بلا شك من مؤازرتهم في تقوية دعائم الإنجازات التي تحققها، مما يجعل تلك الإنجازات أكثر قوة وتماسكا ونفعا. الحكومة التي تشرك مواطنيها فعليا ستخفف الحمل على كاهلها، لأنّه لا يمكن لحكومة ما على ظهر الأرض أن تضطلع بدور التخطيط والبناء والتعمير وفي الوقت ذاته تمارس الرقابة والضبط..!. الحكومة التي تشرك المواطنين والمؤسسات في القرار تعلّمهم حل مشكلاتهم ومواجهتها بالأساليب الملائمة. الحكومة التي تشرك مواطنيها تزيد من وعيهم الإجتماعي، فتصبح قيمة المواطنة ذات أثر وعمق في أنفسهم مما يجعلهم مبادرين إلى الحفاظ على مكتسبات الوطن، وحماية مصالحه، والحفاظ على ماله العام من أن تطاله يد الفاسدين، أو يد المبذرين. إضافة إلى ذلك أنها تهيئ المواطنين ليكونوا صنّاع حلول إيجابية، وليسوا مفتعلي مشكلات سلبية، ومساهمين إيجابيين بدل أن يكونوا معثرّين. يقول الدكتور فاضل محسن:"إنّ التنمية إذا كانت تعني فيما تعنيه الارتقاء بالإنسان والحياة لأي مجتمع والنهوض به نحو آفاق جديدة وتحقيق التطور المرتجى وتوفير كل ما يحقق الرفاهية للفرد والمجتمع، فإنّها لم تعد حكرا أو واجبا تضطلع به الدولة ومؤسساتها فحسب، بل أضحت واجبا على أفراد المجتمع".

لكن من المؤسف أن بعض المؤسسات الحكومية لا تدرك قيمة الشراكة مع المجتمع أفرادا أو مؤسسات (جمعيات، أندية، مجالس، قطاع خاص)، ولهذا تعامل بعض المؤسسات الحكومية المواطن على أنّه "طالب مصلحة" تقضى من الحكومة، ولا تنظر لكونها "مقدّمة خدمة" للمواطن، لهذا لا يجد الكثير من الموظفين - بسبب هذه الثقافة - أن في الأمر بجاحة من ململة المواطن، وترداده، وإعيائه، وتعجيزه، وتعطيله..!! وهو ما يجعل البعض لا يراها بأقل من مذلّة وإهانة حتى يحلف مقسما بالله بأنّه لن تطأ قدمه تلك الجهة مرّة أخرى وأنّه سيقطع كل رابط بها..!! كما أنّ البعض يتنازل عن طموحاته، وأحلامه التي أرادها أن تكون إسهاما للتنمية..!! كما أنّ بعض المؤسسات الحكومية لا تدرك قيمة الشراكة بينها وبين المواطن فإذا بها تترصّد أخطاءه، وتترقب عثراته، وتتحيّن زلاّته، فإذا بها تضخّم التوافه، وتوسّع الشق على الراقع..!! فما هكذا تكون الشراكة بين المؤسسات الحكومية وبين المواطن الذي هو عمادها، وأساس وجودها. وقس على ذلك معاملة بعض الجهات الحكومية لمؤسسات القطاع الخاص، أو مؤسسات المجتمع المدني التي تعييها الطلبات والتأخيرات والتعقيدات دون مبرر يذكر..!

ذات مرّة اشتكى أحدهم لأحد الوزراء على دوائر في وزارته تترصّد كل خبر في صحيفة يصدر عن نشاط اجتماعي فتلاحق القائمين به تأنيبا وترهيبا فقال الوزير: كان عليهم أن يتصلوا بكم للتشجيع والمؤازرة وليس للتهديد والوعيد..!! وفي المقابل هناك من المواطنين من لا يدرك قيمة الشراكة بينه والحكومة فإذا به يغلظ في سخطه، ويلذع في نقده، ويبخس في حكمه، كما يعمّم خطأ موظّف على الحكومة، ويشخصن كل جهة، ومصلحة..! فلا ذاك ولا هذا يجوزان إنّما التكافؤ والعدل والحكمة والإنصاف هي المعايير والمبادئ التي يجب أن تحكم ميزان الشراكة، وأسس التعاطي بينها. يقول برودي وآخرين(2011):" إنّ المشاركة الإيجابية للمواطنية يمكن أن تدعم التطبيق الفاعل للديمقراطية وتشريعات الحكومة والتطبيق الناجح للقوانين ونتائج الإنجازات الاجتماعية. أمّا البرامج القائمة على المشاركة الضعيفة فإنها تقود إلى القرارات الفاشلة، وعدم المشاركة الشعبية".

إنّما الدور الأكبر على الحكومة في تفعيل مبدأ الشراكة بإتاحة المجال أمام المجالس التشريعية بأن تشترك معها في وضع وتقويم وتقييم السياسات ومراقبة الأداء والنتائج وتنشيط المراقبة والمحاسبة والمساءلة في أجواء من الشفافية التامة. عليها الدور الأكبر في الإصغاء لهذه المجالس التي وجدت لتعضيد عملها، وتقويم أدائها، وتحسين خدمتها، وتسهيل عملها، والإسهام في رسم سياساتها. وعليها الدور الأكبر لإشراك المواطنين بالحوار معهم وإشراكهم فعليا في صنع القرارات والسياسات المتعلقة بمصير أمّة وأجيالها القادمة.




تعليق عبر الفيس بوك