القرارات الثورية بديل عن الثورات

علي بن مسعود المعشني

القرارات الثورية هي القرارات غير المألوفة في الشكل والمضمون، وهي القرارات النافذة والتي تتجاوز كل أشكال الأقنية التقليدية لتحقق نتائج استثنائية في زمن استثنائي أو إزاء وضع استثنائي.

والقرارات الثورية في الغالب الأعم تحتاج إلى عقول ساخنة ورجال دولة استثنائيين ومربي شعوب بكل المقاييس، ومن يمتلكون رسائل في حياتهم تجاه الأوطان والمجتمعات ورؤية وبصيرة شاملة بكل ما يُحيط بهم من مكونات وقدرات ومقدرات بشرية وطبيعية لتوظيفها التوظيف الناجح واستنهاضها بالطرق والوسائل الفاعلة لرفع سقف عطائها إلى الحد الأعلى، وإخراج مكنوناتها وقدراتها الخلاقة.

لا يوجد شعب من الشعوب على وجه الأرض يفوق الآخر بالفطرة والقدرات الجينية الموروثة على الخلق والإبداع، بل توجد شعوب تتفاوت في قدراتها بحكم الموروث والتناسل الفكري، وبحكم عطاء الله لأوطانها من مقدرات وثروات طبيعية، ثمّ العقول القادرة على توظيف كل تلك المعطيات لتغيير الواقع والنهوض بتلك الأدوات ومن خلالها بالأوطان والمجتمعات لتحقيق واقع أفضل.

فأخطر السياسات على الأوطان هي السياسات التي تخاطب النُخب وتهدف لرعاية وتحقيق مصالحهم، وتُهمل رغبات وتطلعات ومصالح السواد الأعظم من الناس.

وتلك السياسات التي تتصف بالضبابية أو القفز على ممكنات الدولة البشرية والمادية فيصعب أو يستحيل تحقيقها أو التفاعل معها بإيجابية.

كثيرة هي التجارب الثورية من حولنا والتي اتسمت بالاستثنائية والخروج على المألوف وحققت الكثير من الطموحات والآمال والمكاسب الوطنية، وجُندت لها منظومة الدولة بأكملها - المادية والبشرية والمعنوية - لتحقيقها على الوجه المثل، دون إخفاق أو تعثر.

أغلب هذه القرارات الثورية كانت عبارة عن مشروعات قومية طموحة كبرى في الأوطان لتحقيق قيمة مضافة اقتصادية واجتماعيّة، ولتتجاوز كل المألوف والتقليدي من تخطيط ورصد وممكنات، كالمشروع القومي للهند في عهد الزعيمة أنديرا غاندي لتحقيق الأمن الغذائي من المحاصيل الاستراتيجية وإنقاذ البلاد من المجاعات والمواءمة بين الثروات والتفجر الديموغرافي المضطرد، حيث تمّ استقطاب عقول الهند في المهجر واستنهاض عقول الداخل لتحقيق هذا الهدف الوطني السامي خلال عشرة أعوام، مع تسخير كل المقدرات المادية وتذليل كل الصعاب الإدارية والبيروقراطية لتحقيق الهدف المنشود، وكان للهند ذلك الإنجاز التاريخي الشبيه بالمعجزة البشرية وفق المخطط الزمني القياسي المرسوم لذلك.

عندما قرر الزعيم الكوبي فيديل كاسترو القضاء على الأمية (القراءة والكتابة) في بلاده، لم يذعن لخطط مستشاريه وتوصيات كبار قادته بوضع خطة عُشرية لتحقيق ذلك بل أغلق الجامعات والمعاهد في كوبا وأمر بانطلاق الشباب في القرى والبلدات وتعليم الناس القراءة والكتابة، فتحقق لكوبا محو الأميّة خلال عام دراسي واحد، وعاد الجميع إلى سابق عهده ووضعه التعليمي.

في عام 1964م وفيما عُرفت بمعركة خليج الخنازير بين النظام الكوبي ومرتزقة كوبيين مدعومين من المخابرات الأمريكية، أسر الجيش الكوبي بعد انتصاره 2400 مرتزق من المهاجمين، وبعد مفاوضات بين الطرفين وافق الزعيم كاسترو على إطلاق سراحهم مقابل 2400 جرار زراعي وسط ذهول الوسطاء والقيادة الكوبية، وبفضل تلك الجرارات حققت كوبا الاكتفاء الذاتي من محصول السكر وبدأت التصدير خلال أعوام قليلة جدًا.

استطاع المشير محمد عبدالحليم أبوغزالة وزير الدفاع المصري في عهد الرئيس حسني مبارك من تنفيذ خطة طموحة للجيش المصري نقلته من خانة أكبر مؤسسة استهلاكية بمصر إلى أكبر مؤسسة إنتاجية بها، في التصنيع المدني والعسكري والزراعة والثروة الحيوانية والإسكان والقطاع الطبي، بفضل إعادة هيكلة الجيش والقوانين والإجراءات المتعلقة بالتجنيد وتوظيف قدرات ومؤهلات المجندين لخدمة المؤسسة العسكرية وتحقيق أهدافها، وبهذا أصبحت المؤسسة العسكرية المصرية بمثابة دولة بداخل دولة بإمكانياتها المادية وكوادرها البشرية.

استطاع الزعيم الفنزويلي هوجو تشافيز من الحد الكبير للفقر والأمراض والقضاء على أحياء الصفيح المنتشرة حول العاصمة كاراكاس بفعل خطط طموحة للإسكان ورفع مستوى معيشة الفقراء في بلاده، وأمر بإشراك وحدات من الجيش الهندسية والطبية في البناء ونشر مستشفيات ميدانية في جميع أنحاء البلاد لبسط الخدمات العلاجية والوقائية بين المواطنين. كما كان يتلقى جميع هموم المواطنين عبر برنامجه الإذاعي " ألو الأخ الرئيس" والذي يُبث كل أحد مباشرة ولمدة أربع ساعات متواصلة.

اكتشف الكوريون الجنوبيون بعد الحرب الكورية المدمرة في الخمسينيات من القرن الفائت، بأن نهضتهم لن تتحقق إلا بالقضاء على أسباب حربهم تلك والتي تسببت في تقسيم كوريا إلى شمالية وجنوبية، وعزوا ذلك إلى فشل جيل الحرب وفشل الموروث الثقافي وضحالة الزاد التاريخي والحضاري للشعب الكوري، الأمر الذي تطلب خلق منظومة جديدة من العادات والتقاليد وأنماط التفكير والمناهج التعليمية لخلق جيل جديد يخلق بالنتيجة واقعًا جديدًا لبلاده ويحررها من عقليات جيل الحروب والفشل.

قبل اللقاء: ما لم يكن همك على الوطن، فأنت هم على الوطن.

وبالشكر تدوم النعم..

Ali95312606@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك