الاجتهاد والتجديد

سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟ (28)

د. صالح الفهدي

بَعَث لي أحدهم فتوى من أحد العلماء بحرمة التهنئة والاحتفال بمولد النبي -صلى الله عليه وسلم- فرددت عليه بقولي: "أخي الكريم تلك اجتهادات عالمٍ يصيب أو يخطئ، الاحتفال بمولدِ المصطفى إحياء لسيرته، فإن كانت بدعة فهي محمودة..!! وأضفتُ قائلاً بأنَّ علينا أن ننتهز كل مناسبة لنذكر أنفسنا وأبنائنا بسيرة نبينا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام..!! ولقد وافق كلامي هذا ما أصدرته دار الإفتاء المصرية بعد ذلك من بيانٍ تردُّ فيه على أحد قادة السلفية بالتأكيد على "أن الاحتفال بذكرى مولد النبي محمد (ص) "جائز شرعاً"، بل واعتبرته "من أفضل الأعمال وأعظم القربات"؛ باعتبار أنه يعبر عن "الفرح والحب للنبي"، مضيفةً بأن "محبة النبي أصل من أصول الإيمان"، ومشددةً على: "أن الاحتفال بمولد النبي محمد هو أمر مقطوع بمشروعيته؛ لأنه أصل الأصول ودعامته الأولى".

ليس هذا بمستغربٍ؛ فالخطاب الإسلامي المعاصر يعاني من إشكاليات أجملها الكاتب محمد يونس في كتابه "تجديد الخطاب الإسلامي" بعدة سمات؛ هي: "الضعف العام بالمضمون والمحتوى، والارتجال والعفوية الناتجة عن نقص التخطيط، وضيق الأفق والتركيز على القضايا الطارئة، وأخيرا انعكاس الخلافات الفكرية والثقافية والمذهبية".

إنَّ قياسَ كل ما يستجد من مواقف بناءً على متغيرات الحياة على ما عايشه السلف ليس دائماً هو القياس الحصيف؛ فالحياة لا تسلك سبيلاً واحدة، ولا تتبع أنماط عيشها، وصور مواقفها أطر مكرورة ذات نسق واحد، وإنما هي في تغيُّر دائب، وتلون مستمر. أما التوقف بحجة "البدعة" فذلك مما يحتاج إلى المراجعة لأن الأمة قد جمدت طاقاتها، وحجمت إبداعاتها، مخافة ارتكاب بدعة ليست من الدين..! وهناك تعاريف لطيفة أوردها الدكتور عدنان إبراهيم في معرض تعريفه عن البدعة يجدر بكل مهتم أن يستمع لها.

الشاهدُ هنا أنَّ الإتيانَ بما يتوافق -بل ويخدم- الدينَ لا يمكن حجره، وسد بابه بحجة أنه لم يؤتَ في زمن النبي الكريم -عليه أفضل الصلاة والسلام- والصحابة -رضوان الله عليهم- فهذا يعني تعطيل لعمل العقل، وجمود للفكر الذي ناله ما ناله من العطب بسبب عدم الإنتاج والتموضع في دائرة الماضي، وما قيل في المسائل السابقة، في حين أن متغيرات الحياة العصرية أخذت نمطاً متسارعاً لا يمكن مقارنته بالماضي مما حدثَ في العصور الماضية. يقول الكاتب زاهر المحروقي في مقاله "جمود الفكر الإسلامي": "إن توقف الاجتهاد أدى بالمسلمين أن يمنحوا العقل إجازة مفتوحة، وهذا بدوره غيب الضمير؛ فعاش المسلمون في الماضي ونسوا حاضرهم ومستقبلهم، فقدسوا آراء الأشخاص ورفعوها إلى مرتبة "المقدس"، فلا يجوز نقد أقوالهم ولا تصرفاتهم، وعندما ظهر من يدعو إلى تنقيح السنة النبوية الشريفة مما لحق بها من الأذى فإذا هم يقابَلون بالحرب وكأنهم خرجوا من الملة".

الإشكالية أنه لم تجمد أن تبطئ حركة الاجتهاد فحسب، بل وغابَ الفكر المجدد إلا عن النوادر الذين لم يسلموا من الكلام الجارح ممن تحسبهم الأمة دعاةَ صلاح، وبر وتقوى!

إنَّ أكبر إشكالياتنا هي أخذ الدين مأخذاً مظهريًّا، والتعامل معه على أنه دين الهيئة أكثر من دين التعاملات والأخلاق..!! فإذا بالأحاديث التي تُروى في مسائلَ مختلفة تطلق في عموميتها ولا تقيد بالأسباب، حتى أصبحت ثقافةً متأصلةً ينافح عنها البعض بتزمت وتشدد وهو لا يعرف الحكمة من ورائها..! فقد سألت يوماً أحدهم عن أمر فقال: يقول الشيخ الفلاني كيتَ وكيت.. فسألته: وأنت ماذا تقول؟ ولا أقصد حكمه في الأمر، وإنما تفسيره وقناعته فيه، فقال: أنا أتبع ما يقوله الشيخ..! وهذا ربما لا يريد سماعه حتى الشيخ نفسه لأنه رجل مجتهد ينظر لأمر ما بحسب التوصيف، وصيغة الكلام والسؤال فيقول فيه رأيا قد خفي عنه بعض جوانبه فلم يطلع عليه، أو نقصته المعرفة فيه.

أخذ البعض في مقاضاة الآخرين والحكم على عباداتهم لأوهن حجة؛ فها هو واحد يأمر الناسَ بعد قضاء الصلاة بإعادتها لأن المأموم -وليس الإمام- قد ثنى بنطاله الذي هو في الأصل دون الكعب..!! إنه هنا -وهذا ظنه- لم يكتف بإعادة صلاته وحده، وإنما أحرجَ الإمام والمأمومَ وشكك المصلين في صلاتهم، وربما يكون سبباً في إشعال فتنة، ووغر صدور!

وما من شك في أن عدم إدراك حكمة الشرع، وأولويات الدين نقص في الحكمة ومجافاة للشرع ذاته الذي يُعلي النفس البشرية منزلةً رفيعة، ويحاول جاهداً أن يدرأ عنها الحدود بالشبهات..!. وقد وقعت في أحد المساجد مشاجرة كادت أن تتحول إلى ما لا يحمد عقباه، والسبب أن أحداً ممن حسب الصلاحَ في نفسه، والتقوى، والورع دفعَ مصلياً عن موضع المأموم (المصلي الذي يقف وراءَ الإمام مباشرةً) بطريقة فجة، كتمها الأخير حتى انقضت الصلاة فقامَ هائجاً، منزعجاً من فعل ذلك الرجل، حتى دخل معه في سجال حام بأسلوب متشنج!! لقد بدا واضحاً أن ذلك بفعل تراكمات نفسية كتمها الرجل لأنه تعرض لموقف مشابه من رجل آخر.. أما السبب فليس ظاهراً يمكن تبريره!

فمنذ متى كان الدين ذريعة للتقاتل والتناحر على أتفه الأسباب وهو الذي يدرأ الحدود بالشبهات على أعظم المعاصي؟! منذ متى كان الدين سيفاً مسلطاً على رقاب الناس لرأي اجتهدوا فيه بحسن نية دون أن يمس أركان العقيدة؟! ومنذ متى كان الدين ذريعةً للعَنت والشدة والغلظة في مندوبات الأمور، والمختلفَ عليه بين الناس؟! ها هو الفكر المتزمت الفظ الذي لم يدرك سماحة الإسلام ولطفه قد نشر الكراهية في العالم، ليس في غير المسلمين فحسب -وهذا هو الأنكى- بل إنه نشرَ الكراهية والبغضاء في ديار المسلمين، أولئكَ الذين ألف الله قلوبهم به..! "وَأَلفَ بَيْنَ قلوبهمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا في الأَرْض جَميعًا مَا أَلفْتَ بَيْنَ قلوبهمْ وَلَكن اللهَ أَلفَ بَيْنَهمْ إنه عَزيز حَكيم" (الأنفال:63). لقد بغَّض هؤلاء دين الله إلى الناس بشنيع صنائعهم، وفظيع نكاياتهم حتى رأى الشيخ محمد الغزالي -رحمة الله عليه- في كتابه "مشكلات في طريق الحياة الإسلامية": "أنَّ انتشار الكفر في العالم يقع نصف أوزاره على متدينين بغضوا الله إلى خلقه بسوء كلامهم أو سوء صنيعهم"، وقوله هذا قبل ظهور "داعش"!

المدهش أنَّ بعض العلماء وعلى رأسهم من يُسمُّون بـ"علماء الفضائيات" مزدوجون في دعواتهم؛ فهم من ناحية يتحدثون عن سماحة الإسلام ولطفه، ومن ناحية أخرى يتشددون في أتفه الأمور، ولا يجدون حرجاً في إبداء الصلافة والجلافة والعتو مع أقرب الناس إليهم..! حتى تخرجت على أياديهم أجيال مستنسخة الفكر لا تتحدث إلا بقول من قالوا، وترديد ما سمعوا، فليس لها فيه رأي، وهي أقرب ما تكون إلى السيوف المصقولة التي أنى يدفع بها تمضي دونما سؤال حتى ألقيَ بها إلى ساحات الاقتتال الطائفي، والاحتراب المذهبي، والتناحر الجهوي..! هؤلاء هم خطر على الأمة التي يكفيها ما جناه هؤلاء عليها من كراهية وبغضاء إلى جانب مستبدين من حكام شدوا الخناق على شعوبهم وتمتعوا هم بالنعم الوفيرة، فأضحت شعوب بين سندان البغاة من حكامها، وسندان التطرف من علمائها!

الأمة لا تحتاج إلى اجتهاد فحسب، بل تجديد في العقليات التي تنظر للدين نظرةً ذات سعة في الحجى والإدراك، وبصيرة ذات فطنة ونباهة في المعرفة. المصيبة أنَّ هناكَ من يوظفون الدين بحسب أفكارهم واتجاهاتهم، ويقصرون التفاسيرَ بحسب ما يشاؤون هم لا بحسب حكمة التشريع، ومقاصد التكليف..! وهي ما يصفها الكاتب لؤي صافي بـ"النزعة النصوصية"، ويقصد بها الحرفية في الفهم والاقتصار في الفهم على ظاهر النصوص دون النظر إلى مقاصد الشارع ودلالات النص، وقد أدَّت إلى حصر الفقه والفكر في إطار تاريخي، كما أدت إلى تغييب الرؤية القرآنية، ويُقصد بها الكليات والمقاصد التي أرادها الله -عزَّ وجل- وأرادها رسوله -صلى الله عليه وسلم- عندما يعني عملا وقادا وأسسا وفعلا.

يقول في كتابه "إعمال العقل" (ص:127): "على الرغم من إصرار منهجيات الفقه الأصولية على إعطاء الكتاب اليد العليا "جعل السنة تبعاً له"، إلا أنَّ الممارسة العملية خلال القرون المتأخرة قد قلبت سلم الأولويات رأساً على عقب، فجعلت الرأي السائد المقبول عند الجمهور حَكَماً على اختيار نصوص السنة وتحديد دلالاتها والسنة المخيرة حَكَماً على عملية اختيار نصوص الكتاب وتحديد حكمها، حتى إننا نجد من الفقهاء من يقول صراحة: الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب، والسنة قاضية على الكتاب"، وفي هذا يقول الشيخ محمد الغزالي: "هجر المسلمون القرآن إلى الأحاديث ثم هجروا الأحاديث إلى أقوال الأئمة ثم هجروا أقوال الأئمة إلى أسلوب المقلدين ثم هجروا أسلوب المفكرين وتزمتهم إلى الجهال وتخبطهم".

لا يُمكن أن تتناقل الأجيال الإرث الفقهي دون تمحيص وتدقيق وتنقية، فذلك مما أنتجَ أمةً خاملة الفكر، جامدة الطاقات، لأنها تعاملت مع نصوص منجزة، وتفاسيرَ محققة، ومذاهبَ مكتملة، وفقه مؤكد..! وهي مع ذلك في المقابل ترى الحياة في تجدد مستمر، وتغير متصل لكنها لا تستطيع أن تقدمَ على تغيير، أو تبدي رأياً لأنها تلقت المعرفة معلبةً جاهزة فما عليها إلا تطبيقها بحرفيتها الظاهرة، لا بحكمة مقاصدها الباطنة على الناس في كثير من الأحوال..! لهذا استقت العقليات المتحجرة من الكتب التي قدست مضامينها حتى فاقت تقديس كلام الله المنزل، فإذا بتلك الكتب تغدو مراجعَ للأمر والنهي لها، ومصادر لتحديد الحلال والحرام لا كتاب الله، ومنابع لقتل البشر، وتدمير الأوطان، وتشريد الأبرياء!

إنَّنا حين نتحدَّث عن التجديد، فإنه لا يفهم من ذلك الدعوة للنيل من أصول الدين، ولكن تنقيته مما لحق به من الأفهام التي عدت أحكاماً قاطعةً، وتشريعات جازمة، وتفاسير محققة، ومرويات مؤكدة، كما نعني به إظهار قدرة الدين على التعاطي مع متغيرات العصر وقضاياه بلغة عصرية، وفكر متفتح يتمتع بالأصالة الفكرية في الاجتهاد والتجديد.

... إنَّ مجتمعاتنا بحاجة إلى الإصلاح الديني الذي يسبق الإصلاح السياسي وهو ما يؤكد عليه المفكر الدكتور محمد شحرور في قوله: "لا يمكن أن يكون الإصلاح سياسيًّا قبل الإصلاح الديني؛ فالعقلية التقليدية الموجودة عند الناس لا تقبل أي إصلاح سياسي".. وكيف يكون أي إصلاح ديني إذا اعتقد الدعاة والعلماء والمسؤولون عن المؤسسات الدينية بأنه لا حاجةَ إلى الإصلاح والمراجعة..؟! يقول الشيخ محمد الغزالي: "إنما فسدت الرعية بفساد الملوك، وفساد الملوك بفساد العلماء؛ فلولا القضاة السوء والعلماء السوء لقل فساد الملوك خوفاً من إنكارهم".

لهذا؛ فالأمة اليوم بحاجة إلى دعاة مستنيرين، وعلماءَ مجددين، وفقهاء محدثين، يفتحون أبواب الاجتهاد ويتركونها مشرعةً للكفاءات الأفذاذ، ويعملون في تجديد الخطاب الديني، وإعادة النظر فيما تناقلته الأجيال من فقه يقبل الظن والحمل على وجوه أخرى.

لقد دلَّ تداول مقالي السابق "علموهم" في دول عربية على أن الناس تتوق إلى تغيير الخطاب الديني، ليحملَ خصائص الإشراق والتفاؤل والحب والرحمة أكثرَ من الشدة والغلظة والصلافة والبجاحة، وهذا ما يجب أن يحث على تشجيع الاجتهاد وفق الضوابط الشرعية ولكن برؤى تجديدية مستنيرة؛ فقد أصبح ذلك فرضاً على الأمة بعد أن رزءَ الإسلام بمن يزعمون انتسابهم إليه أكثر من رزئه بأعدائه!

تعليق عبر الفيس بوك