كلنا نصدِّقك يا يانكوفيتش!

ليلى البلوشي

لقد ظل يانكوفيتش الشرطي الصربي العجوز إحدى شخصيات قصة الكاتب العراقي حسن بلاسم التي حملت عنوان (شاحنة برلين) يحكي لأقسام الشرطة الصربية ولكل الناس عن الفظائع التي رآها بأمّ عينيه لشبان عراقيين هاربين في شاحنة وجدها متروكة كجثة كبيرة في عزلة الغابات، بعد أن فرّ سائقها إلى حيث لا يعلم أحد، حتى أن زوجته، أقرب الناس إلى قلبه عدت ذلك ضربا من الخيال!

ففي صيف عام 2009م كما يسرد القاص حسن بلاسم عن بطل يعمل في بار في إسطنبول، لغته ركيكة غير أن البار كان يؤُّمه ألمان كانت أيضًا لغتهم رديئة، في تلك السنوات الوحشية في الغربة هرباً من بلد متطاحن أراد هذا الشاب أن يصل إلى وجهة لا تفقده هويته ولا كرامته أو إنسانيته؛ لذا قام بجمع مبلغ من المال، كي يفرّ إلى أرض أخرى، قد تكون أكثر أماناً وأوفر حظًّا، لكن طرق التهريب كانت مختلفة معظهما غير مأمونة، يضطر فيها معظم الهاربين إلى المغامرة مهما كانت النتائج وخيمة، فهم هاربون من الموت والفقر والعدم والجلاد.. ماذا بقي أمامهم سوى السعي الحثيث للخروج من مأزق هذه الحياة إلى حياة أكثر قيمة ومعنى بالنسبة لهم؟!

كانت أرخص طرق الهروب هي المشي في الغابات مع المهرب حتى يقوده إلى دولة حدودية تكون المنفذ، بينما كانت أكثر طرق الهروب رعبا وغير مأمونة إطلاقا هي الهروب على متن شاحنة وفي عتمتها يختلي الهارب مع أكثر من خمسين فردا ربما، كانت فكرة الهروب عن طريق شاحنة آخر اقتراحاته لا سيما وعقله مسكون بهواجس مرعبة عن شاحنة برلين تحديدا كما رواها رجل أفغاني له باع طويل في حكايات المهربين، هو بنفسه كان هاربا، سكن في إسطنبول عشرة أعوام بطريقة غير قانونية، عمل في التزوير وبيع المخدرات.

حكى الأفغاني عن مجزرة شاحنة برلين، عن خمسة وثلاثين شابا عراقيا، شبان حالمين اتفقوا مع مهرب تركي لينقلهم بشاحنة مغلقة لتصدير الفواكه المعلبة من إسطنبول حتى برلين، وحين دفع كل واحد منهم مبلغ أربعة آلاف دولار تمت الصفقة خاصة وأنهم سمعوا عن نزاهته في نقل الهاربين كما أنه رجل حج ثلاث مرات بل كان يدعى الحاج إبراهيم، وأصبح هؤلاء الشباب الهارب بأحلامهم على متن شاحنة فواكه المعلبة، كانت ثمة قوانين، فالتغوط كان في النهار فقط، أمّا التبول فكان مسموحا به في أثناء الليل في قناني الماء الفارغة، ممنوع حمل الهواتف الخليوية أثناء الرحلة، وممنوع الصراخ والعراك، بل يجب أن يكون تنفسهم على قدر كبير من الهدوء، فالطرق خطرة والمراقبة مضنية..

مر اليوم الأول بسلام، كذلك اليوم الثاني، كان يتخلل طريق الشاحنة وقوف للتنفس والتهوية عن الروح وشراء طعام وقناني الماء على وجه السرعة أو قضاء الحاجات في ستر الأحراش، كلف السائق شابان ليتكفلا بتنظيم هذه الأمور..

كانت الشاحنة تمضي في طريقها بحذر كبير وكانت تحرسها سيّارات في بعض الطرق، ولكن في يوم شعر الشبان بأن الشاحنة استدارت وأخذت تقطع طريقها بسرعة جنونية، لقد كان موقفا مرعبا للجميع، فهم مكتظين في عتمة صندوق الشاحنة ولا علم لهم عما يجري خارجها، هل كانت الشاحنة في طريقها إلى أرض الفرار حيث أحلامهم الضخمة بانتظارهم أم أنها تعود أدراجها خائبة..؟

ظل هذا الأمر شاغل الشباب الخائف، كان نقاشهم في البدء هادئا ملؤه المخاوف وعدم اليقين حتى أن بعضهم كان يقرأ القرآن الكريم ليعم السلام في أرواحهم المرعوبة، غير أنه مع مرور الوقت أصبح الجدال عاليا، وصوت الخوف مرتفعا حين توقفت الشاحنة فجأة وهي في طرقها إلى منعرجات ترابية، كان توقفها مفاجئا لــ خمسة وثلاثين شابا عراقيا ظلوا طوال ثلاث ساعات ينتظرون الخبر اليقين، لكن انتظارهم تبدد، وتحول الجدال إلى طرق على باب الشاحنة محكم الإغلاق، في وسط تلك العتمة الصارخة كان الجميع في حال لا تسر، بدوا كوحوش وهم يخبئون طعامهم وهم يجادلون ليس بأصواتهم فحسب بل بأيديهم وأرجلهم، وسط هذه الفوضى الرهيبة كانت روائحهم تفوح، أكثر الروائح البشرية نتانة وعفونة، رائحة لا يطيقها حيوان فكيف بآدميين، كانت تتراكم كل لحظة تمر مثل طبقات كالحجر!

أخذت الشاحنة تهتز بعنف في مكانها وانداح الصراخ والرعب، أصوات استغاثة مثل حمم بركانية كانت تطيش، كانت صوت استغاثاتهم زلزالا في قلب الشاحنة المظلمة!

بعد أربعة أيام عثرت الشرطة الصربية على الشاحنة عند أطراف مدينة حدودية تحيط بها الغابات من كل الجهات، وحين فتحوا الباب الخلفي للشاحنة نط شاب ملطخ بالدماء من داخلها وركض كالممسوس صوب الغابة، في الشاحنة كان هناك أربع و ثلاثون جثة متكدسة على بعضها، كما كانت مليئة بالخراء والبول والدم، والأكباد الممزقة، والعيون المقلوعة تماما كما لو أن ذئابا جائعة نهشتها!

ولم يصدق أحد يانكوفيتش الشرطي الصربي العجوز، بل كانوا يسخرون منه، القصة مستحيلة بالنسبة لهم، لكن أنا أكيدة، أكيدة تمامًا أنّ كل من في العالم اليوم ليس فحسب أقسام الشرطة الصربية أو زوجته يصدقون تماما ما حكاه يانكوفيتش في ذاك النهار عن شاحنة برلين.

لكنني سأعترف يا يانكوفيتش بأنّي لو لم أقرأ هذه القصة في هذا التوقيت بالذات لما صدقتك أيضًا، فمنذ أعوام حين كتب الكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني رواية رجال في الشمس وقتها كانت هذه الرواية في حيز الخيال، خيال كل عربي تحديدا حتى الفلسطيني نفسه، وكان كنفاني وقتها يجس مرارة الجرح الفلسطيني الشريد في كل بقعة من العالم، ووقتها أيضا لعلنا لم ندرك أن حكايته نبوءة، نبوءة حقيقية مرعبة عن واقعنا العربي القادم!

أما قصة شاحنة برلين التي عشت تفاصيل رعبها يا يانكوفيتش هي عن الواقع العراقي الذي لا يقل مرارة عن الواقع الفلسطيني، وكنا أيضا سنعدّها عن العراق و حسب طوال تلك الأعوام، لكنها الآن في عام 2015 هي أيضا صرخة عن الواقع السوري الذي فرّ أكثر من نصف شعبه إلى براري مجهولة بطرق لا يعلمها سوى الله، وكان آخرها في شاحنة دواجن حيث استيقظ الواقع العربي على نبأ مرعب شبيه في القصص والروايات التي سبقت وقرأناها واعتبرناها مجرد خيال مبالغ من فكر الكُتّاب الهاربين إلى ملاجئ المنفى، لكن الواقع العربي الآفل أثبت أن واقعها أكثر رعبا من القصص نفسها ومن الروايات التي تروى حكاية رعبها!

وكل هذا الصراخ المهول والعالم بشقيه العربي والغربي ما يزال متفرجا صامتا؛ ربما هي نبوءة أخرى لانتهاء هذه الأوجاع الرهيبة كما ذهب وليم جيمس: "هكذا ينتهي العالم، لا برجّة عنيفة، وإنما بنواح خافت"!

Ghima333@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك