الخصوصية الثقافية

ناصر محمد

منذ انهيار المشاريع العقلانية التي سادت إلى منتصف القرن العشرين وإلى سقوط جدار برلين في نهاية القرن، ظهرت مفاهيم جديدة في ساحة الفكر والسياسة تؤكد أن لكل مجتمع خصوصيته الثقافية وأن ما يناسب هذا المجتمع قد يلفظه مجتمع آخر لعدم استيعاب التربة لهذا النوع من البذور الدخيلة، وربما يصح هذا الأمر على تلك المشاريع التاريخية ذو البعد الواحد التي تركز على طبقة اجتماعية دون الأخرى، وتفرض فكرا قد تصل عقوبة مخالفته الى التصفية الجسدية كما حدث في زمن الأنظمة الشمولية. وكذلك ذلك التدخل السافر من بعض الدول على دول أخرى لدرجة تشويه هويتها في تسمية أسماء طرقها ومدنها بأسماء آيديولوجية مشوهة بذلك بحقائق التاريخ لخدمة مشروع استبدادي.

وكردة فعل على هذا الاستبداد الفكري طرحت الحركات التحررية ومنظمات حقوق الإنسان مجموعة من المبادئ التي تؤكد على حرية الفرد في اختيار ما يريده من فكر أو دين أو ممارسة مدنية وسياسية شريطة عدم الإضرار بالآخرين ونزع أي تطرف ضد الآخر سواء كان فكريا أو دينيا أو عرقيا، وهذا وضع طبيعي لدول وضعت الخطابين: الديني والعقلي بين قوسين بعد تجارب مريرة معهما، وكان من ضمن الحقوق التي منحت للشعوب الحرية في الإبقاء على تراثها وثقافتها من أي تدخل خارجي عنيف. وبعد انهيار جدار برلين وانهيار آخر المشاريع العقلانية ظهر تدخل جديد على الدول مختلف عن التدخلات الاستعمارية العسكرية وهو ما تم نعته بالعولمة. ويمتاز هذا التدخل بأنّه تدخل فكري لا يؤمن بالحدود، يشجع على قيام ثقافة كونية تخص كل البشر وتصهر في محيطها تلك المفاهيم المحدودة مثل الوطنية والجنسية والمذهبية.

لم ينظر الغرب بعين الارتياب لهذه الموجة الثقافية الكونية إلا بعض الدول مثل فرنسا التي تكافح باستماته بلغتها أمام الهيمنة اللغوية الفكرية الأمريكية، وربما سبب ذلك أن هذه الدول بشكل عام مرّت بنفس التجربة التاريخية ورمت خلفها كل بذور الشقاق من التمييز والتعالي. بالمقابل واجهت دول العالم الإسلامي عموما والعربي خصوصاً هذه الموجة الكونية بعين مرتابة وخائفة على تاريخها وتراثها اللذين لم يواجها تلك المراحل الفكرية الغربية مثل الإصلاح الديني ودخول عصر العقل وانهيار الايديولوجيا، فهي مازالت عذراء من التجارب بسبب الظروف التاريخية التي حنطت الفكر أكثر من ألف عام.

وهنا يبرز السؤال في أحقية تمسك الدول العربية والإسلامية بالخصوصية الثقافية أمام ما تم تسميته بالغزو الفكري غير العسكري؟ فالثقافة التي تصر هذه الدول على حمايتها لا تتسامح كثيرا مع المفاهيم الكونية كحرية الأديان وحرية الرأي والتعبير والشفافية في تداول السلطة والانتخابات وحرية المرأة في أبسط حقوقها وهو اختيار الزوج مثلاً. ومن ضمن الثقافة المحمية من الاختراق حرمة اختيار الدين الذي قد يصل في بعض القوانين إلى سلب من يمارسه الجنسية، وكذلك حرمة الخروج على ولي الأمر وطاعة الكبار والأسلاف، والولاية على المرأة والطفل في حقوقهم وجعل العنف الممارس عليهما حقًا ضرورياً لحماية الأسرة من التفكك، وحرية الرأي والتعبير مكفولة في حدود الثقافة الخاصة بكل مجتمع والتي تتخلف كثيرا عن المتغيرات الاجتماعية المتطلبة لمساحات أعلى من المرونة.

هنا قد لا يكون احترام الخصوصية الثقافية شيئاً محمودًا في المجتمعات المتداخلة ذات الموروث الديني، فالاحترام يعني تبرير الانتهاك بحق الكثير من الأفراد الطامحين إلى ثقافة أكثر تسامحا وانفتاحا، وهذه الخصوصية تُستغل من قبل الأنظمة في تبرير قمعها لشعوبها باسم الخصوصية الثقافية وكذلك في تأكيد عدم تدخل المجتمع الدولي في شؤونها باسم السيادة. وللأسف تم تأكيد هذا المبدأ -الذي غالباً ما يساء استخدامه من قبل هذه الأنظمة- في الاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، وذلك من خلال حق التحفظ على بعض موادها لأنّها قد تؤدي إلى حرية أكبر ما يُهدد هذه الأنظمة، وحق التحفظ ووضع القيود منح للدول وذلك لحماية النظام العام والمصلحة العامة وهما مفهومان ضبابيان يمكن أن يتم استغلالهما لتبرير الممارسات غير الإنسانية على الشعوب.

ليست المشكلة في الخصوصية الثقافية من ناحية المفهوم بل من ناحية سياق الاستخدام، فهي تنمو وتحترم أكثر في المجتمعات ذات الطبيعة التعددية لأن الأرضية الفكرية مستوعبة لجميع الثقافات، أما في المجتمعات ذات الخصوصية الثقافية النابذة لغيرها فهي تشجع على الكراهية وخلق الحدود المقيتة بين الطوائف والفئات لأنها لا تملك تربة محايدة.

تعليق عبر الفيس بوك