القيصر الروسي وسياسة "كسر العظام"

سُلطان الخَرُوصي

 

يبدو أنَّ القيصر الروسي قد أربك الحسابات الأوروبية والأمريكية والعربية التي كانت تراهنعلى أن سقوط الأسد وحلفائه (غير المرغوب بهم) على مرمى حجر والأمر لا يعدوسوى مسألةوقت لا أكثر. وحينما بدأت معاقل الأسد تتهاوى أمام الضربات العنيفة نوعا وكما من قبل الدواعش وفلول المعارضة ومن أحزاب ظاهرة وأخرى باطنة؛ حينها كشفت روسيا الستار لتعلن للعالم أنني لا أزال ذلك القطب العنيد العتيد الذي ورث الاتحاد السوفيتي بشكيمته وغلظة قلبه، ويبدو أن الروس قد ضجروا من سياسات الغرب والولايات المتحدة الأمريكية المبنية على صناعة الحروب لترويج تجارة السلاح وهي صورة طبق الأصل حول قراءة قدمها الكاتب السياسي "فائد مرسي" في كتابه "الرأسمالية تجدد نفسها"؛ حيث جسَّد لنا الخيوط الرفيعة التي تنطلق منها الرأسمالية الغربية والأمريكية نحو تصدير اقتصاد السلاح، بدلا من المعرفة والتكنولوجيا. والشاهد على ذلك الوضع العربي الفوضوي الآن، أمام الأرقام الضوئية للمليارات التي تُهدر على عقد صفقات الأسلحة الأوروبية والأمريكية، بينما يكمن تدخل الأخيرين في إذكاء فتيل الخلافات العميقة التي تجر البلاد والعباد إلى واقع الأرض المحروقة، كما يحصل في سوريا والعراق واليمن وليبيا.

لكنَّ المواطن العربي يتساءل عن ماهية ونوعية التدخل الروسي (المباشر) في سوريا دون استئذان مع الغرب أو الأمريكان؟ وما الذي دفع الروس الآن بالذات للزج بأسراب طائرتها وخبرائها في بلد مضطرب مستنزف منذ أربعة أعوام دون أن يكون لها تدخل في الأمر من قبل باستثناء التلويح بحق النقد (الفيتو) لاعتراض أي تدخلات عسكرية أوروبية أو أمريكية؟هل دخول بوتين في سوريا وفي هذا التوقيت بالذات هو إعلان لكسر حاجز العزلة القيصرية الروسية في منطقة الشرق الأوسط، واتباع سياسية العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم تجاه الأمريكان والغرب تجاه تقزيمهم المستمر للدب الروسي؟ ثم ما صحة تصنيف بعض السياسيين والقادة العسكريين أن العالم العربي انقسم بين أصدقائه إلى مؤيد للسنة عبر النافذة الأمريكية والغربية وآخر مدافع عن الشيعة عبر النافذة الروسية؟ وأخيرا هل نشهد استعراض عضلات حقيقة بين الشيوعية ممثلة في روسيا والتحرك الصيني والرأسمالية؛ حيث الأمريكان والغرب ولربما هي بداية نهاية الحرب الباردة لتشي بإرهاصات حرب عالمية قادمة ربانها جنرالات الكبار ووقودها الشعب العربي المغيب من خريطة صناعة القرار؟

تشكل الأسئلة آنفة الذكر منعطفا مهما لقراءة المشهد العربي الذي يبدوأنه في منأى عن مناصرة قضاياه الجوهرية والمصيرية في مقدمتها القضية الفلسطينية، ورفع الكفاءة التنموية، وبناء تكتلات سياسية واقتصادية بماركة عالمية تنعش الحياة الإنسانية الكريمة للمواطن، ومحاربة الفساد الإدراي والمالي، وبناء المؤسسة العسكرية الوطنية، وتجويد مظاهر البنية التحتية، وتعزيز قيم المواطنة الصالحة، وبناء منظومة تعليمية سوية، كل تلك المجالات أصبحت في خبر كان بالنسبة لسياسات الحكومات العربية إلا ما ندر جدا.

وعودة إلى الولوج الروسي في المستنقع العربي، فيبدوأن التخلف الرسمي والجماهيري في هذا الجزء من العالم حول مصالحه الوطنية وغياب الرؤية حول ما نريد ان نكون عليه بين دول العالم جعلها أرضا خصبة لاستعراض العضلات للصراع الأزلي المتشظي منذ القرن المنصرم حينما كان على أشده بين الشيوعيين والرأسماليين ليتم إنشاء ما عرف بحلف بغداد (1956م) ضد المد الشيوعي والذي ضم كلا من المملكة المتحدة والعراق وتركيا وباكستان وإيران وبمباركة ودعم منقطع النظير من الولايات المتحدة الأمريكية ليتم إحلاله في (1979م) بعد اندلاع الثورة الإسلامية في إيران وانسحابها منه، واليوم يبدوأن ملامح هذا الحلف بدأت تتشكل من جديد ولكن بصورة مغايرة جعلت من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية خارج الأسوار وكأن لسان الحال يقول "كما تدين تدان"؛ حيث إنَّ أجندة هذا الحلف بنيت على معطيات (غاضبة) من حكومات وشعوب الدول التي قامت فيها الثورات العربية؛ إذ تتهم الولايات المتحدة الأمريكية ومعها الغرب بالتنصل عن مسؤولياتهم الأخلاقية والإنسانية تجاه تأزم المشهد السياسي، وضعف البنية الأساسية، وتدمير الاقتصاديات الوطنية العربية، وركاكة الحياة الثقافية، وانعدام للعدالة الاجتماعية، وترهل الفساد في المؤسسات والقطاعات العسكرية. ويبدوأنَّ هذا الحلف الذي اعتمدت بغداد مقرا لهويضم كلا من سوريا وإيران وروسيا والعراق، قد يضع ممارسات السياسة الأمريكية تجاه القضايا العربية أكثر جدية في ظل انتهاج اللامبالات وعدم الاكتراث بالمآسي والتخلف الحضاري الذي أججته سخرية حكومة (أوباما) لكثير من الملفات الساخنة التي كانت تتطلب جدية حقيقة في تحقيق صور الحياة الديمقراطية بالمنطقة.

قد يحرك تدخل الدب الروسي الماء الراكد -الذي طالما استفردت به أمريكا طوال عقود عجاف؛ في سعيها الحثيث نحو تعزيز القدرات العسكرية والسياسية والديموغرافية للكيان الصهويني- على حساب مصلحة الشعوب العربية في ظل أنظمة استبدادية أو فوضى سياسية عارمة، وهناك من المراقبين من يرى أن التدخل الروسي في الوطن العربي، وفي هذه الظروف شبه الميتة سياسيا وعسكريا واقتصاديا من البوابة السورية، هو ظاهرة صحية لاستعادة التوازن العالمي بين قطبي العالم دون تطبيق سياسة الفرعون الأوحد، وما يهمنا أمام كل هذه المواقف المشحونة والوقائع المتسارعة في الميدان هو في أي مربع يجب أن نقف عليه أمام كل ما يحدث؟ فهل نملك قوة مؤثرة تمكننا الإمساك بالعصى من الوسط بين طرفي النزاع المصلحي (الأمريكي-الروسي) لنحدد مصالحنا العليا أو ينطبق علينا المثل القائل "أطرش في الزفة"؟

Sultankamis@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك