سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟(13)

المعرفة والإرادة

 

د. صالح الفهدي

 

كما لا يُغني الإيمانُ شيئاً دون العملِ، فإن المعرفةَ لا تنفعُ دون إرادة. الإيمانُ بالشيءِ قاعدةٌ أساسيّة لكنّه يبقى مبتوراً دون عمل "الإيمانُ ما وقرَ في القلبِ وصدّقهُ العمل" حديثٌ شريف. أمّا المعرفةُ فهي كذلك منطلقُ الوعي والإدراك لكنّها مشلولةٌ دونَ إرادة.

 

لا تعوزنا المعرفة عن كثيرٍ من المشكلاتِ، بل وندركُ – في بعض الأحيان- طرق حلّها، وأساليب تقويمها، وهنا الحيرةُ التي تتجسّدُ في السؤال: لِمَ لا نبادرُ إذن للعلاجِ ونبتدرُ للحل؟! إنّها الإرادة..! هذه هي المعضلة الحقيقية: إننا لا نملك الإرادة الكافية لتحقيق ما نعرفه..! محصورون في دائرةِ الكلام، ومحشورون في صندوق ما يجب وما لا يجب لكننا لا نمتلك المحرّكات الدافعة التي نحتاجها لتحقيق كل ما نعتقدُ بصحّته في سبيل التغيير نحو الأفضل. يقول فينس لومباردي: "الفرق بين الإنسان الناجح والآخرين ليس نقص القوة أو نقص العلم ولكن نقص الإرادة".

 

وهنا أودُّ أن أضرب مثلاً على الكوريين الجنوبيين في المعرفةِ والإرادة، إذ إن كوريا الجنوبية خرجت من الحرب العالمية الثانية دولةً فقيرة، يعمل أغلب سكانها في قطاعِ الزراعة،  لكن المعرفة والإرادة هي التي حوّلت كوريا الجنوبية إلى دولة صناعية ليرتفع دخلها القومي من 2,3 مليار دولار مع بداية الستينات، إلى 1449 مليار دولار عام 2014، كما ارتفع نصيب الفرد من الدخل القومي من 87 دولارا، إلى أكثر 35,485 ألف دولار أمريكي في 2014..!!

 

السرُّ في نهضةِ كوريا الجنوبية وتحوّلها من دولةٍ فقيرةٍ إلى دولةٍ عملاقةٍ اقتصادياً هو في أمرين: المعرفةُ والإرادة..! أمّا المعرفة فإنِّ هذه الدولة تنفق % 7.6 وهو ما يعادل 11.3 مليار دولار[1] من مجموع ناتجها القومي أي أنها أكبر دولة تنفقُ على التعليمِ في العالم..! 

 

أمّا الإرادة فهي القوةُ الدافعة للأفكار كي تحوّلها إلى واقع ملموس، يقول غاندي"لا يمكنك عبور البحرِ بمجرّد التحديق فيه"، الإرادة هي الحصان الذي يقودُ عربة الأفكار إلى مقصدها، وما لم تتمتع الأمّة بإرادة قوية فلن تنهض لها حضارة، ولن يعلو لها بناء.

 

سألتُ مسؤولة في جامعة من الجامعات وقد زارت كوريا الجنوبية: ما الذي أعجبك في الكوريين؟ قالت: حبّهم وهمّتهم العالية للعمل، فقد رأيتُ رجلاً مسناّ وهو يحملُ حقيبته على ظهره، يجدُّ الخطى إلى عمله، يقول لنا: إن علينا مهمّة كبيرة في إعدادِ هذا الجيل إعداداً مناسباً لتقدّم كوريا الجنوبية وازدهارها. هذا الكلام يذكرّني بوصيّة رجلٌ كوري جنوبي يُدعى شونج مون لي Chong Moon Lee حين أوصى بألاَّ يرث أبناؤه سوى القليل اليسير من ثروته بعد موته، فهو يرى أنه أعطاهم فرصة نيل تعليم ممتاز الأمر الذي يكفيهم..! إنّه يرى أنّ التعليم بالنسبة لأبنائه أثمنُ من المال لهذا خشي أن تفسدهم الثروة فاجتهدَ في تعليمهم..!

 

إنّ كوريا الجنوبية لم تكتفِ بالعلمِ وحسب وإن هي أولتهُ اهتماماً منقطع النظير بل كانت حازمةً لا تعرفُ اليأس، صامدةً لا تعرفُ الاستسلام فتقدّمت في التكنولوجيا بعد أن حلَّلت ما تملكه من إمكانيات وقدرات وما يحتاجُ له الآخرون من متطلبات وضرورات فمضت وفق خطّةٍ واضحةٍ طموحةٍ. هكذا هي الأمم التي تقدّس العلم والعمل تمضي في تقدّم مطّرد، وفي سيرورةٍ حثيثة.

 

قال لي أحد المسؤولين وكنّا نتحدّثُ عن فاعلية رؤيةٍ إستراتيجيةٍ وطنيّةٍ بعيدة المدى: ليست المشكلةُ في الرؤية وإنّما في التطبيق، وتفسيري لذلك هو أن الإرادة هي التي تحوّلُ الرؤية النظرية إلى واقعٍ ملموسٍ بقراراتٍ حاسمةٍ، ومتابعاتٍ حازمةٍ، ومحاسباتٍ صارمة..! هذا هو مكمنُ السرِّ؛ فما قيمة أن يكون لديك معرفة أو رؤية أو علم ولا تمتلكُ الإرادة الفاعلة للتطبيق، يقول عالم النفس الأمريكي ويليام جيمس: "إن الإنسان يجب أن يشاهد صحة رأيه أو خطأه في تجربته العملية، فإن جاءت هذه العملية التجريبية موافقة للفكرة كانت الفكرة صحيحة وإلا فهي باطلة". قيمة الفكرةِ دائماً في التطبيق وليس في الفكرةِ ذاتها، ولهذا يُخطيءُ كثيرون حين يخشون على سرقة أفكارهم من قِبل آخرين لأن السرّ ليس في الأفكار ذاتها بل في طرق التطبيق على الواقع..! كم من يملكُ فكرة فيأتي من يقلّدهُ أو يسرقُ – حسب زعمه – فكرته لكن التطبيق هو الذي يميّز بين الأفكار حين تمتزجُ فيها عواملَ أُخرى لا تصبح الفكرة معها إلا أحدَ عناصرها فقط ..!

 

ما هي المشكلةُ التي تسببت في وَهَن الإرادة في ثقافتنا.. الوهن الذي أنتجَ التسويف والتأخير والبحثِ عن الوساطات، والإعتماد على الآخرين؟ لا شكّ بأنها مجموعة عواملَ نفسية (ضعف الهمّة والملل والإكتئاب) وجسدية (الخمولُ والدّعة وضعف الجسد) وفكرية (فقدان الرؤية والتخطيط) بل واجتماعية (فقدان التشجيع والمؤازرة وانتشار ثقافة الإحباط والحسد) وسياسية (الإستبداد والقمع وتقليص الحريات) لكن ذِكرَ هذه العوامل مجتمعة لا يعني أنّها تأتي دفعةً واحدة، أو أنها تشكّل مزيجاً يفقد الإنسان إرادته إنّما هي في كثيرٍ من الأحايين تأتي فرادى بحسب الطبائع والظروف. الإنسانُ الذي يتمتّع بعلوّ الهمّةِ، وبعد النظرِ، وقوة النفس تراه صاحبُ إرادةٍ متوفّزة، وعزيمة متحفّزة لا يهدأ له بال، ولا يسكن له حال إلا أن تتحقق طموحاته، وينال آماله. يقولُ الشاعر:

 

وَمَنْ تَكُنِ العَلْياءُ هِمَّةَ نَفْسِهِ .. فَكُلُّ الَّذِي يَلْقَاهُ فيها مُحَبَّبُ

 

وليس من سبيلٍ لعلاجِ هذه المعضلة –معضلة ضعف الإرادة- إذا أردنا أن نُقبلَ على العملِ والإبداعِ سوى بإعادة برمجة الذات الإنسانية وإخضاعها لبرنامج فعّالٍ، برنامج يحرّرها من الخوف من الفشل، والتردِّد في القرارِ، ويعيد تشكيلها إيجابياً لترى الإيجابيات لا السلبيات، وترصد الفُرص لا المشكلات، وتتخيّل النجاح لا الفشل. إننا لا يمكنُ أن نمتلك الإرادة إن لم نكن إيجابيين، فأكبرُ محبّطٍ للإرادة هو التفكير السلبي، والخوفُ من الفشل..! وتغيير ذلك يستوجبُ أو ما يستوجبُ اكتشاف الذخائر النفسية، والمواهب والإمكانيات الإنسانية، فهي أساسُ الإيمان بالنفس وقاعدة الثقة بقدراتها. بعدها يكون الإنتقاءُ المناسبُ للكلمات الإيجابية التي تصنعُ الأفكار الخلاّقة. هذا الخطّ يتزامنُ مع خطٍ آخر هو الإهتمامُ بالجسدِ وقدراته لتفعيل ما نردّده دائماً "العقلُ السليم في الجسم السليم" والذي غدا شعاراً فارغاً عندنا دون تطبيق..!

 

إن المعرفة والإرادة توأمان لا ينفكّان عن بعضهما إذا ما شائت الشعوبُ أن يكون لها شأن، والأوطان أن يكون لها كيانٌ بين سائرِ الأوطان المتقدّمة. أمّا الشعوب التي تدمنُ ترديد كلمة "بُكرة" و"يمكن" وتكثرُ من اللاءاتِ، والمستحيلات، والإحتمالات، فقد حكمت على نفسها بالقعودِ، فإذا طالَ القعود فلن تسعفها القوائمُ فيما بعد على النهوض والحِراك..! إنها سنّةُ الحياةِ التي لا يعقلها إلاّ العاقلون الذين يحفرون آثارهم على الصخر، لا أولئك الذين يغوصون بأجسادهم في الرّمال..!

 

 

 

 [1] "Korea (Republic of)". United Nations Development Programme. Retrieved December 4, 2013.

 



.

 

 

تعليق عبر الفيس بوك