إجازة العيد بين حانا ومانا

د. سعيدة بنت خاطر الفارسي

تحكي الحكاية الشعبية العربية القديمة أنَّ رجلا مُسنا تزوج على زوجته الأولى وتدعى حانا، زوجة أخرى صغيرة جميلة اسمها مانا، وراحتْ الزوجة الصغيرة تلتقط الشعرات البيض لتغيظ ضرتها حانا، وتظهر الزوج في عُمر يليق بها، بينما كانت حانا تلتقط الشعرات السود من ذقن زوجها لتغيظ مانا، وتظهر الزوج شائبا كهلا مثلها، حتى صحا الزوج ذات يوم ووجد نفسه منتوفا إلا من بضع شعيرات؛ فتألم لحاله وحزن، فقال قولته الشهيرة التي أصبحت مثلا سائرا:

"بين حانا ومانا... ضاعت لحانا"، وقد كتب إسكندر الخوري هذه الحكاية الساخرة في قصيدة للأطفال توظف الحكاية الشعبية التراثية، فقال:

(كان لحانا ومانا...

زوج يحب الحسانا

كهلٌ ولكن صبي...

في قلبه مثل مانا

صبيةٌ ذات دلّ...

جميلة كديانا

وكهلةٌ تلك كانت...

مَن اسمُها كان حانا

***

وما وعى الزوج إلا...

وقد غدا عريانا

من ذقنه فتمنى...

لو أنه ما كانا

يقول: ضاعت لحانا...

ما بين حانا ومانا).

إجازة العيد هذا العام شاكلتْ المثل الشعبي السابق؛ فقد أشعلت وسائل التواصل سخرية ونكتًا وطرائف، ومن قبل ذلك بالتخمينات عن طول الإجازة وقصرها، خاصة وأنَّ إجازة العيد الصغير كانت مخيبة للآمال.

ولقد تمَّ توجيه الغضب الداخلي والصراخ والاحتجاج، لمن اشتهر وكتب عن تقليص الإجازات وكان علي المطاعني كبش الفداء طِبْقا للمثل العُماني "تقدر على من؟ قال أخوي الأصغر".. يومها نسي العمانيون تحليلاتهم السياسية في الحرب السورية والحرب اليمنية، ونسوا متابعة أسعار النفط، ونسوا الشورى وانتخاباتها، ونسوا احتجاجهم على انتقال تراثهم إلى الجارة الإمارات...إلخ، وبرزت صورة علي المطاعني لتحتل وسائل التواصل بمختلف أشكالها، والحقيقة كانت صورة علي بعمامته الزرقاء الفيروزية جميلة جدًّا، لكن ردات الفعل كانت أشبه بالثورة الشعبية ضد علي وكتاباته؛ أملا في إسقاطه عن عرش الكتابة، لكن وطبقا أيضا للمثل القائل "لكل عملة وجهان"، برز من يدافع عن علي المطاعني بحكم المعرفة أو الزمالة أو الاقتناع أو انتصارا للمرسوم، أو لأي سبب كان، المهم أن الموضوع تشعَّب بين رأيين: رأي يؤيد الإجازة القصيرة، ورأي كاسح رافض لهذا القص والابتسار للإجازة. وبعيدا عن المطاعني وتقييم كتاباته، وتقييمه كصحفي وكاتب مقال، نتناول الإجازة التي تحدَّدت بأربعة أيام، منها يوم الوقفة، وثلاثة أيام للعيد... والسؤال هل تكفي هذه الإجازة؟ وارد جدًّا، فيوم سيقضيه معظم العمانيين في الطريق ذهابا للبلاد (مدنهم وقراهم)، ويوم أيضا في الطريق عودة من البلاد؛ فالعمانيون ليسوا أهل مطرح ومسقط فقط، المهم بقي يوم واحد للعيد ما نعرف أنفسنا بنظف ونرتب بيوتنا المهجورة، نظرا لإقامتنا المستديمة في مسقط، أو بنذبح أو بنزور أو بيزورونا، أو بنقضي ما علينا من التزامات اجتماعية للناس: نعزِّي هذا، ونبارك لهذا، ونزور مريضًا بعد غياب طال عن المدينة، وإلا كيف نقسِّم ذاك اليوم الوحيد العجيب، وهذا العيد الأكبر عيد النحر الإجباري على كل قادر، أين صلة الرحم التي ننادي بها، ونحن أكثر من شهر وأحيانا شهرين لم نر أهلنا ولا مدينتنا، بسبب الارتباطات الدنيوية التي لا تنتهي؟! ماذا نفعل؟ نقول السلام عليكم، ومع السلامة في الوقت نفسه!!! ثم لماذا كل هذا الاستعجال؟! هل لدوران عجلة الإنتاج والاقتصاد؟ أكاد أجزم جزما أقرب للقسم بيرجعوا نايمين من شدة التعب والإرهاق والجري، وبدلا من البيت بيكملوا الإجازة نوم فوق مكاتبهم، هذا إذا كانوا ملتزمين وداوموا. أما في العودة من المناطق فسيتراكضون في الشوارع حتى تتلاطم سياراتهم وتتطاير الحوادث ليلحقوا على الدوامات، فما هي الفائدة القصوى التي ستعود على الحكومة وقطاع الأعمال؟! وإذا حسبنا الأمور بجدية، سنجد أنَّ الإجازة هذه لم تمنح الناس سوى يومين، الأربعاء والخميس، أما الجمعة والسبت فهما أصلا إجازة، أين التعويض؟!!! الحكومة تريد إنتاجًا والناس أيضا تريد حقها في الإجازة، ومن المعروف سلفًا أنَّني لستُ مُستفيدة من الإجازات، فأنا في إجازة متواصلة، مُتقاعدة والحمد لله، لكن الموضوع بالفعل مرُّ المذاق، لدينا في الإسلام عيدان فقط، هما فرحة للمسلمين من الهدي النبوي، فلماذا نبتسرهما بهذا الشكل المخل، ويا بلدنا عندنا عشرات الإجازات احذفوا نصها لا يهم، حتى العيد الوطني اقتصروا الإجازة فيه على يوم واحد لن نحتج، لماذا ثلاثة أيام وأربعة أيام؟ وهو عيد سنفرح فيه معنويا بدون تكليف رباني، وبدون ارتباط بالعادات والعرف، ومعظم المواطنين لا يستفيدون من تلك الإجازة، لا يستفيد منها إلا من خف حمله ومسؤولياته، وثقل جيبه ورصيده، وطار للحجز في فنادق العالم للراحة والاستجمام، ومعظم الشعب العماني خارج هذه الحسبة؛ إذن لن يعترض أحد إن صارت إجازة العيد الوطني يوما واحدا؛ فالوطنية ليست بكثرة الاحتفالات والإجازات، يا حكومة اتقوا الله فينا، عندما صرخ الناس من قصر مدة إجازة العيد، صرخوا لأنهم يعرفون ما ينتظرهم من مسؤوليات. أمَّا الرأي القائل "حان الآوان لتغيير تلك التقاليد"، نردُّ عليهم بل آن الأوان لتغيير ما لا نحتاج إليه من إجازات وإنفاق، العيدان عيد الفطر وعيد الأضحى أولويات وتكليف، وليسا من الكماليات، الرجاء مراعاة مقتضى الحال، وما وسائل التواصل إلا أدوات تنقل لكم نبضَ المواطن، خاصة عندما يُشبه الأمر الحملة الواسعة الشعبية، التي شنتْ على قصر تلك الإجازة، وأعتقد أن هذا خير وسيلة لمعرفة توجه الرأي العام، دون استبيانات أو بحوث. أما الطرائف والنكت التي رأى البعض أنَّ الشعب تقبل بها الأمر، فلا أجدها إلا مرارة لا يستطيع الإنسان أن يعبِّر عنها صراحة؛ فلجأ إلى تلك السخرية والنكت التي تقطر وجعا، والحقيقة لقد أشعرني خبراء الاقتصاد العماني وهم يتحدثون عن توقف الاقتصاد والضرر الذي سيلحق به من إضافة يوم واحد للإجازة، بأننا في ألمانيا ستتوقف مصانع السيارات والحديد والصلب والإلكترونيات والصواريخ و..و..و..و..

أمَّا للقطاع الخاص، فقد قلتها كذا مرة، العيدان يخُصَّان المسلمين فقط، والقطاع الخاص مليء بغير المسلمين، فلماذا يمنحون هذه الإجازات وأقصد بها إجازتي عيد الفطر وعيد الأضحى؟ هل لكي يُفسدوا علينا عيدنا ولا نجد مكانا تتمشى به الأسر ولا يتنزه به أطفالنا؟ صعب أن أجيب، ماذا لو داوم هؤلاء واستمروا في الإنتاجية بدلا من المسلمين، ونحن نتنازل لهم عن إجازاتنا الأخرى.

يا بلدنا لا إفراط ولا تفريط، لا إجازة مُملة مُترهلة تصل إلى عشرة أيام، ولا إجازة مقصقصة لا تفي بالغرض، يريدون تصحيح العادات والاقتصاد.. تصحيح السلوكيات لا يأتي بضغطة زر بين يوم وليلة، السلوكيات تحتاج وتحتاج وتحتاج، ونحن لم نعمل لا تربويا ولا إعلاميا ولا دينيا عبر خطب الجمعة على تصحيح سلوكيات، ونسينا أنَّ خلاصة الرسالة المحمدية تتلخص في "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، فأين هو الإسلام والسلوكيات مُتضادة مع تعاليمه؟!

كلنا نعرف أنَّ الإجازات في الغرب المتمدن الصناعي لا تقل عن إجازاتنا جُملة، لكن هناك لا يترك أحدهم المكتب ساعتين ليصلي الظهر على حساب العمل، لا يفرش أحدهم الطاولة ساعة للإفطار، لا يتحدَّث في التليفون ساعة لأن "الخط ببلاش"، لا يخرج لشراء السمك لأسرته ليأكل السمك طازجا، لا ولا ولا... غيِّروا أولا هذه السلوكيات وبعدها غيِّروا الإجازة. ففي الغرب، العمل عمل والإجازة إجازة، إخلاص حتى في اللعب، متى نتعلم نكون مخلصين لا نتعلك بالوطنية وحب الوطن، ونحن نسرق عيون الوطن ونعميها!

أخشى يا بلد أن نصحو ذات يوم كما صحا زوج مانا وحانا على تنتيف الإجازة وقصقصتها، والغرض الوهمي مزيد من الإنتاجية وتختفي مظاهر العيد وجمالياته، وما يرتبط به من عادات وأعراف وتقاليد وتواصل للأرحام والجيرة، فلا نحن أنتجنا، ولا نحن راعينا ديننا وعاداتنا.

ولن نجد إلا أن نكرر "بين حانا ومانا... ضاعتْ رؤانا".

تعليق عبر الفيس بوك