سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟(10)

التعلم الذاتي وإدارة الأهداف

د. صالح الفهدي

كم تمنيتُ أن أسمعَ خطاباً مختلفاً غير الحديث المستهلكِ الذي يرى في العمالةِ الوافدةِ خطراً يتهددنا في جوانب كثيرة؛ خطر التجارة المستترة، تحويلات الوافدين المالية، الآثار الاجتماعية السلبية على التركيبة السكّانية، احتلال المناصب العليا، وعدم إتاحة الفرصة لأبناء البلاد للاقتراب من كراسيها..! هذا أمرٌ مُسهبِ الشرح، ومفهوم الطرحِ، فإذا كان أبناءُ البلادِ أنفسهم يتنافسون فيما بينهم، ويسعى كل واحدٍ منهم لاقتناص أفضل الفرص لنفسه، وأحسن السوانحِ لأهله، حتى ليصل به إلى حسدِ هذا، وإعاقةِ ذاك من أجل أن يفوز هو بالأفضل، ويظفرَ بالأحسن، فما ظنّكَم بوافدٍ تغرّب من وطنهِ، وتحمّل المشقة، وعذابات البُعدِ عن الأهل لأعوامٍ طويلة، حتى لم تعد بينه وبين أبنائه الذين كبروا على مدار السنين تلك العلاقة الأبوية الطبيعية وإنّما هي علاقة رابطٍ معيشي، وتضحياتٌ من أجل مستقبلهم.. ؟!

لا تمنعنا غيرتنا على أوطاننا من الإنصاف، والعدل في الشهادة، كما لا تمنعنا نظرتنا الموضوعيّة نحو ماهيةِ السُّبل السليمة لانتفاعِ بني الوطن بثرواتِ بلادهم التي هم حقيقون بها ومستحقّون. لقد تمنّيتُ أن أسمع ماذا تعلّمنا من الهنود الذين يشكّلون النسبة العليا من بين الفئات العاملة لدينا؟! ماذا تعلّمنا منهم في "التعلّم الذاتي"، و"إدارة الأهداف"..؟!! هذه خصائص عُرفَ بها الهنود في كفاحهم من أجل البناءِ، والتطوير، ومن ثم السيطرة والإحكام! تقول الكاتبة البريطانية من أصل هندي أنجيلا سايني في كتابها "أمة من العباقرة Geek Nation":"يُشتهر الهنود والأفراد ذوو الأصل الهندي - في أي مكان في العالم- بأنّهم محترفون ومجتهدون ومهرة ومجدّون ومهووسون بالحاسوب"..

كما يحدد مؤلفو كتاب "نهج الهندThe India Way" أربعة أسباب لتفوق الإدارة الهندية، وهي: "العمل الشاق والاندماج الكلي في العمل، وسرعة التكيف مع المتغيرات، وتحقيق إنجازات عظيمة بموارد محدودة"..

هذه الخصائص التي يتمتّع بها الهنود بدأت تعطي مردودها التنموي السريع على بلادهم فهي في نموٍّ مطَّرد لتصبح قوةّ اقتصاديّة عظمى، فهل سنكتفي نحن بمشاهدتهم والتذمّر منهم لأنهم لا يتيحون لنا مجالاً لاكتسابِ الخبرةِ أو التعلّم منهم أو الترؤّس عليهم، أم نتعلم منهم الأسباب التي تحقق لهم "إنجازات عظيمة بموارد محدودة"..؟!

علينا أن نقف عند هذه الخاصيّة التي يتمتّع بها الهنود وهي "تحقيق إنجازات عظيمة بموارد محدودة".. بالطبع فإنَّ أول ما يتبادر إلى أذهاننا هو التقدّم الطبي في علاج الأمراضِ(إنجازات عظيمة) مع استخدام أجهزة ومعدّات أقل جودة وحداثة من التي في مستشفياتنا (موارد محدودة). والسبب في ذلك يمكن استنباطه من القصّة التي رواها أحد الشهود في مجتمعنا وهي واقعةٌ فيه يقول: أعرفُ موظفاً هندياً يتقاضي راتباً شهرياً قدره ٦٠٠ ريال عماني، وتتقاضى زوجته مرتّباً أقلّ منه، ابنتاهما الاثنتان تدرسان في المدرسة الهندية الخاصّة، وبعد تخرج الابنة الكبرى قدّمت طلبها الانضمام - بالنفقة الخاصة لوالديها- لعدد من جامعات أمريكا، فحصلت على معدل عالٍ في امتحانيَّ SAT و TOFEL ثمّ حصلت على قبول من عشر جامعات، وتم اختيار الأبوين جامعة Buffalo بولاية نيويورك لدراسة ابنتهما. ذهب الوالدان مع ابنتهما إلى أمريكا ورتّبا لها إقامة مع أُسرة مكوَّنة من زوجين متقاعدين (+٦٠) عامًا بتكلفة ٣٠٠ دولار شهريا، كما خصّصا لها مبلغاً مماثلاً كمصروف جيب، حيث واظبت على استخدام وسيلة النقل العام للتنقل طوال مدة دراستها. بعد ستة أشهر حصلت الابنة على وظيفة براتب مقطوع قدره ٧٥٠ دولارا شهريًا. وفي العام الدراسي الثالث حصلت على وظيفة في الجامعة نظير إعفائها لنصف رسوم الدراسة، إضافة إلى راتب بحسب عدد الساعات بعد إكمالها للبكالوريوس حصلت على قبول لدراسة الماجستير من جامعة أرقى في شمال ولاية كاليفورنيا، ثم فازت بوظيفة في إحدى كبريات الشركات الأمريكية في مدينة دالاس بولاية تكساس. يقول: قلتُ لوالدها: لعلك محظوظ وهذه حالة واحدة، لكنه كرَّر التجربة مع الابنة الصغرى التي أكملت الماجستير أيضاً وفازت بوظيفة في وادي السيليكون بولاية كاليفورنيا..!

الشاهدُ هنا أنّ الهندي يستثمرُ كل ما يملك من ذخيرة وهي (موارد محدودة) لأجلِ مستقبلٍ مزدهرٍ لأبنائه لتحقيق (إنجازات عظيمة) ليس للأبناء فحسب بل وللهند كدولة..! لقد استطاع هذان الأبوان الهنديان - كغيرهما من الهنود أن يغرسا خاصيّة الاعتماد على الذات في تلكما الابنتين، وألا تظلاّ معتمدتين على الأبوين الكادحين.

إنّه من الأجدى لنا أن نتعلّم من الهنود ميزتيّ "التعلّم الذاتي" و"إدارة الأهداف"، أمّا ميزة التعلّم الذاتي فهي التي نشهدُ فيها عاملاً يأتي دون خبرةٍ أو علم، ثم سرعان ما يبدأ تشغيل عملية "التعليم الذاتي" كادحاً، ومثابراً، ومحاولاً، وصابراً لا يعييه فشل، ولا تحبطه ظروف، ولا يوهنه الوقت الطويل حتى تجده وقد تسنّم صفوف رجال الأعمال، وأصبح لديه الكثير من الأموال والأنشطة التجارية ومع ذلك لا يظهر عليه شيءٌ من أثرِ الثراء..!!

أمّا ميزة "إدارة الأهداف" فتلك التي نراها فيه وهو يكرّس لأجلها نفسه، وعوائده، لا ينفقها في شيءٍ من الرغبات، ولا يبذرها فيما لا يجدي نفعاً، حتى نراهُ وقد حقق أهدافه، وانتفع بالسياسةِ التي اتبعها، وهو يضحي بكلّ ما يملك من أجل مستقبلٍ مشرق لأبنائه عبر التعليم المتميّز.

علينا أن نقف على الأسباب التي جعلت من الهنود يتبوأون المناصب العليا ليس في بلداننا وحسب - كما نظنُّ دائماً- وإنّما على رأس شركات عالمية؟! فما الذي مكّن ساتيا ناديلا ليرأس شركة مايكروسوفت، ودفع بسونادر بيتشاي رئيساً تنفيذياً لغوغل، وراجيف سوري ليدير شركة نوكيا؟! وما الذي مكّنهم ليكونوا على سدّة العديد من الشركات العملاقة مثل (سيتي بانك) و(ماستر كارد) و(بيبسي)..؟! لا شك أنّ من الأسباب الأساسيّة التعليم الأكاديمي خاصّة في الولايات المتحدة الأمريكية، والخبرات التي اكتسبوها، لكنني أركّز هنا على ميزتي "التعلّم الذاتي" و"إدارة الأهداف".

يبدو أننا اكتفينا بترديد الخطابات السلبية دون أن نعي أسباب ترقّي الهنود، وعوامل النجاح التي أوصلتهم إلى الإثراء المهني والمالي، ولم نسع إلى تقصّي الأسباب التي كانت وراء نجاحهم لكي نلتقط خيوطها، وكأننا قد وافقنا المتنبي في قوله: "وأخو الجهالةِ في الشقاوة ينعمِ"..!!

إن إدارة الأهداف، وتحقيق الطموحات لا تتم بمجرّد الشكوى والتذمر، أو بالنظر مليّاً في الفراغ، فالهندي طاغور ينصح: "أنه لا يمكن عبور العبر بمجرد الوقوف والتحديق في الماء"..! لهذا فإن تبنّينا للخطابات السلبية قد حرمتنا من التعلّم من هؤلاءِ الذين ندينُ لهم بالفضلِ في تحقيق الإنجازات، والمكتسبات التي تحققت على مستوياتٍ شخصيّةٍ أو وطنيّة في بلداننا،وكان لهم الفضلُ -بغضِّ النظرِ عن طلب المعيشةِ أو السعي لتحقيق الطموح أو الشبكات الخلفيّة الظاهرة والخفيّة- فيما نشهدهُ نحن من تقدّم في جوانبَ شتى من حياتنا.. هذا أمرٌ لا يحتاجُ إلى توضيح لأن الجليَّ لا يحتاجُ إلى بيّنةٍ دامغة، فما إن تصدرُ قوانين لتقليص الأيادي العاملة حتى نرى أثر ذلك في الأسواقِ التي تغدو شبه مهجورةٍ، أو البنايات التي تمسي فارغةً من ساكنيها، أو المشاريع التي تتعطّل، أو سيّارات الأُجرة الخالية، إلى أن يعود الوضع إلى (طبيعته) فتردُّ الحيويّة إلى الأسواق، والمباني، والحركة العامة.

هذه نظرةٌ إلى الهنود لا أرجو أن نغضّ الطرفَ عنها لأنّها شئنا أم أبينا واقعاً يجبُ أن نتعلّم منه لا أن يشغلنا التذمر، وتلهينا الشكوى فنصبحُ لا نحنُ بما تعلّمناهُ ولا بما نطالبُ به..!!

تعليق عبر الفيس بوك