سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟! (8)

د. صالح الفهدي

الإسلام الحضاري

في مُؤتمر عُقد بمدينة نيوكاسل بالمملكة المتحدة عام 2010م، وبعد أن فرغ البروفيسور الماليزي من محاضرته، قُلت له: إننا في العالم العربي نفتخر بتجربتكم ونعتبركم مثلاً رائعاً لتفعيل القيم الإسلامية بصورة حضارية من أجل التقدم والتطوير.

لقد وقع العالم العربي بين انشغاليْن: الأول: مثلته أصوات علمانية لا دينية، تدعو إلى فصل الدين عن الدولة. والآخر: مُغال متطرف، يريد إرجاع الأمة إلى الوراء قروناً مديدةً حتى في شكل العصي التي تحملها!! وفي الطرف الجنوبي الشرقي، كانت ماليزيا تُبرهن للعرب وللمسلمين، بل وللعالم أجمع، نجاحَ مشروعها "الإسلام الحضاري" الذي ارتكزت عليه في نهضتها، وتنميتها لتوصل رسالة للعرب الذين نزلت الرسالة في مواطنهم، أهل اللغة التي جاء بها الوحي المنزَّل؛ مفادها أنَّ الإسلام ليس مجرَّد شعائر دينية تُقام، بل هو منهج تطبيقي عملي للحياة في عموم مناحيها وقضاياها. يقول رئيس وزراء ماليزيا عن مشروع الإسلام الحضاري: إنه "جهد من أجل عودة الأمة إلى منابعها الأصيلة، وإعطاء الأولوية للقيم والمعاني الإسلامية الفاضلة لكي توجه الحياة وترشدها" هذا المشروع ارتكز على عشرة مبادئ: الإيمان بالله، وتحقيق التقوى، والحكومة العادلة والأمينة، وحرية واستقلال الشعب، والتمكن من العلوم والمعارف، والتنمية الاقتصادية الشاملة والمتوازنة، والأخلاق الحميدة والقيم الثقافية الفاضلة، وحفظ حقوق الأقليات والمرأة، وحفظ وحماية البيئة، وتقوية القدرات الفاعلة للأمة.

ولم يأتِ هذا المشروع اعتباطاً لأمَّة أرادتْ أنْ تُوائم بين إسلامها ونهضتها الاقتصادية وثورتها الصناعية، بل جاء وفقاً لما قاله عبدالله بدوي خليفة مُؤسِّس ماليزيا الحديثة مهاتير محمد "لنهضة وتقدم المسلمين في الألفية الثالثة، والمساعدة على دمجهم في الاقتصاد الحديث، كما يصلح لأن يكون دواءً للتطرف والغلو في الدين لأنه يشجع على التسامح والتفاهم والاعتدال والسلام".

وحينما كنت أبحث عن السبب وراء ضعف تطبيق القيم الإسلامية في مجتمعاتنا، لفت نظري البعض إلى حقيقة أن مؤسسات التدريب في الدول العربية تعتمد على المناهج الإدارية الغربية، ولا تستقي من المدرسة المحمدية ما يعينها إيماناً روحياً، وإدارةً تطبيقية!

هذه هي مشكلتنا، نظن أنَّنا مُفلسون، وأننا لا نملك من المقومات والذخائر ما يُعيننا على المنافسة والتقدم الحضاري بغير تطبيق نموذج الإدارة الغربية! يقول "بريفولت" في كتابه "تكوين الإنسانية": "العلم هو أعظم ما قدمت الحضارة الإسلامية إلى العالم الحديث، ومع أنه لا توجد ناحية واحدة من نواحي النمو الأوروبي إلا ويلحظ فيها أثرَ الثقافة الإسلامية النافذ، وهذه الحقائق مؤداها أن الإسلام بناء حضاري".

ذات مرة، حضرت إحدى الدورات الإدارية في دولة عربية، وكان المحاضر يستعرض هرم ماسلو للحاجات الإنسانية (Maslow Hierarchy)؛ فنظر لي زميلٌ عربي مشارك قائلاً ووجهه يتهلل إعجاباً: انظر لهذا الهرم الذي تفتَّقت عنه عقلية هذا المفكر الغربي، والذي لا نجد له نظيراً عندنا..! قلت له ببداهة: بل يوجد.. قال: كيف؟ قلت: في سورة قريش التي سبقته بنحو 1400 عام، فاقرأها لترى فيه الحاجات الإنسانية من توفير الله لقريش الألفة الاجتماعية، والفرص الاقتصادية، وتجنيبها الخوف والجوع! بل إنَّ ماسلو قد وضع الحاجة لتحقيق الذات كأسمى الحاجات والله سبحانه وضع الإيمان به كأسمى الحاجات الإنسانية التي تعقب نعمه التي أنعمها على عباده "فليعبدوا رب هذا البيت" (قريش:3)، والإيمان هو الذي يمنح مسوغات تحقيق الذات الإنسانية، وهو الرافد لشعورها بذاتها!

أقول هذه هي مشكلتنا التي تجاوزتها ماليزيا بوضع مشروع "الإسلام الحضاري" وهي التي لم تتجاوز 60 عاماً على استقلالها بعد أن كانت مستعمرة بريطانية! نظرنا للإسلام فشغلنا الحديث عن الشعائر الدينية، والمسائل الهامشية حتى أصبحنا نسمع عن الفتاوى الغريبة المخجلة التي يخرج بها بعض (علماء) الأمة لكي يحرجوا المسلمين بها أمام العالم!! فإن ظهر من يقول إننا بحاجة إلى مشروع إسلامي متجدد الرؤى، عصري التوجهات، تأتيه الإتهامات الفورية بأنه مبتدع في دينه، أو أنه يروج للإتيان بدين جديد!! لهذا تراجعت الأصوات المستنيرة التي تغار على دينها، وتريد تفعيل القيم التي جاء بها موامةً بين أصوله وعلوم العصر من أجل تفعيل المثل والقيم الإسلامية لتعزيز تقدم الحضارة الإسلامية!

ماليزيا التي تعلَّمت من اليابان طرق النهضة الاقتصادية، لم نتعلم منها كيف استطاعت أن تتفوَّق بمشروع "الإسلام الحضاري" وأن تصل لهذه المرتبة الحضارية المتميزة من المكانة الاقتصادية والسياحية والدينية، حتى ترى -نتيجة مشروع الإسلام الحضاري- كيف يؤدي الحجاج الماليزيون مناسك الحج وهم بأروع نظام، وأمثل هيئة عن الغالبية العظمى!

... إنَّ أحد الأسرار وراء هذا المشروع يكمُن في أنَّ من يقف وراءه أناس عُرفوا بالاعتدال والوسطية وهذا أمر رئيس؛ منهم: وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف محمد زين الذي وَصَف المشروع في الكلمة التي ألقاها أمام المؤتمر العالمي حول قضايا الإسلام الحضاري: "الإسلام الحضاري هو مدخل لتجديد المجتمع المسلم، ويقدم منهجًا جديدًا وصحيحًا لفهم الإسلام في الوقت المعاصر. وعليه، فإنَّ الإسلام الحضاري هو جَهْد لإعادة دور الحضارة الإسلامية التي تقوم على القرآن والسنة، ولا يمكن أن ينحرف عن العقيدة الصحيحة".

ما أردتُ قوله من خلال استحضار مشروع "الإسلام الحضاري" الذي تبنَّته ماليزيا هو أنَّ الإسلام ليس ديناً يستعصي على التطويع والتوظيف والمرونة، وإنما هو مطواع مرن، يمكن تكييفه مع مقتضيات العلم والتطور العصري مع المحافظة على عبادته الوقفية، وأسسه الأصيلة، ومبادئه القويمة.

وحين يتحدَّث المرءُ عن تجديد في الفقه، فليس ذلك "ألعوبة" كما يعتقد أحد الخطباء؛ فهذا كلام بُني على الإطلاق والعموم، وإنما هناك من يأمل مخلصاً في إعادة النظر في حقائق معيشية لكي لا يكون الإسلام مختزلاً في المسجد، وينفصل عن سائر شؤون الحياة بمعاملاتها، وأخلاقياتها، وسائر مصالحها وشؤونها.

لقد أرادتْ ماليزيا أن تضربَ للعرب مثلاً فصدَّقت به قولاً وأحسنتْ به عملاً؛ إذ جمعت بين القيم الإسلامية الأصيلة وإنتاج المعرفة والتعليم وأحدث تقنيات المعلومات؛ وذلك عبر بناء الإنسان، وبعيداً عن التحرُّر من القيود الأخلاقية كما هو حادث في الغرب. لقد نظر مهاتير محمد ناحية العالم الإسلامي، فتعلَّم دروساً عميقة أوردها في وثيقة الخاصة بفلسفة النهضة منها ما رآه أن سبب التخلف في العالم الإسلامي هو السلوكيات الجاهلية التي كانت سائدة قبل ظهور الإسلام كالصراع وبروز الإختلاف. أما الدرس الثاني، فهو إهمال العالم الإسلامي للعلوم الاجتماعية والعلمية والاشتغال بالمسائل الفرعية في الدين!

أمة غير عربية عرفت كيف تنهض بالإسلام وترتقي، وأمم عربية جهلت أنفسها الطريق إلى نهضتها الحقيقية بالإسلام.. وشتان بين أقوال وأفعال!

تعليق عبر الفيس بوك