لماذا تأخَّر إعلامنا الرسمي عن مواكبة الجديد؟!

عبد الله العليان

لا شكَّ أنَّ عالمَ اليوم أصبح قرية مُتداخلة مع العوالم الأخرى القريبة والبعيدة، ومع الفضاء المفتوح بثورته المعلوماتية الضخمة، والتي تستقطب الملايين عبر "الفيسبوك" و"توتير"، والصحف الإلكترونية التي أصبحت خيارًا مفروضا علينا، لذا فإن هذه المرحلة -بعيداً عن التعريفات والمصطلحات- تعني إلغاء الحدود القومية، وتعميم مفاهيم العولمة، ونقل نطاقها إلى أقصى حد من العمومية دون رقابة أو حجب، وفي فضاء مفتوح ومتاح كونيًّا للعالم. ومن هذا المنطلق الإعلامي العربي بصورة عامة والإعلام الخليجي بصورة خاصة، سيتأثر إعلامنا بلا شك بهذه التطورات المتسارعة. وذلك أن تقنية الاتصال المعاصرة تسمح للفرد بالانفتاح على مجالات إعلامية وثقافية متعددة دون أن يكون خاضعاً لمشيئة الدولة وسياساتها الإعلامية والثقافية. هذا الانفتاح وما يقابله من تدفق معلوماتي مقصود تجاه المشاهد -المستقبلين- لا بد أن يُؤثر إلى الدرجة التي يمكن معها المستقبل أن يرتبط برصيد معرفي مشترك مع المصدِّر "الآخر" القوي، مصدر قد يؤثر في سلوكه وتفكيره أكثر من ذلك المتعلق بهويته الأصلية.

ولعلَّ أخطر هذه التحولات ما يقوم به الإعلام في تشكيل أنماط معينة من السلوك الإنساني وتهميش أنماط أخرى من خلال لغة الصورة ورموزها. تحولات أدركت بموجبها الدول المتقدمة أهمية الأدوار التي يمكن أن يقوم بها الإعلام كبديل لممارسة الديمقراطية، خصوصاً بعد أن احتلت وسائط الاتصال المساحة المخصصة لممارسة الفعل الديمقراطي، إذ أصبحت هذه المساحة هي ذاتها المخصصة للإعلام؛ لذلك لم يعد الإعلام يمثل السلطة الرابعة، بل أصبح يشغل المجال الشفاف بين الفعل السياسي والثقافي ورد الفعل الجماهيري.

ويعتقد العديد من المهتمين بتأثيرات العولمة الفكرية والثقافية أنَّ هذه التطورات الكبيرة في وسائل الاتصال والإعلام سوف تجعل العالم يتغيَّر كثيراً ويتفاعل مع الثقافات الأخرى بحكم هذا التطور المعلوماتي والإعلامي المتسارع.

... إنَّ التوقعات المقبلة أن يتوسَّع عالم المعلوماتية وعولمة الإعلام بحيث ينافس الدولة في بعض صلاحياتها، لاسيما مجال الإعلام وتأثيره في الرأي العام، وقدرته وإمكانياته التكنولوجية على الاختراق الكوني حد الانتقاص من السيادة الوطنية؛ بحيث تعمل الشبكات الهائلة من علاقات القوة والهيمنة من خلال الشركات العابرة للقارات، وغطاء منظمة التجارة العالمية...وغيرها من المؤسسات الاقتصادية على الاختراق السيادي، وعلى الأخص الاختراق الإعلامي المعلوماتي. ويذكر جوزيف ناي -وهو مسؤول سابق في البنتاجون وعميد معهد كينيدي في جامعة هارفارد حالياً- في مقال كتبه بالاشتراك مع وليم جونز ونشرته مجلة "الشؤون الخارجية" في عدد أبريل من العام 1996، كيف سيكون من السهل على أمريكا أن تسيطر سياسيًّا على العالم في المستقبل القريب، وذلك بفضل قدرتها التي لا تضاهي في إدماج النظم الإعلامية المعقدة. ويبيّن صاحبا وجهة النظر الأمريكية هذه إلى أي مدى تأثرت مفاهيم السيادة القومية تحت وطأة الاختراق الإعلامي عبر شبكات التلفزة الفضائية والإنترنت؛ حيث لم يعد بإمكان الدول ذات السيادة التقليدية أن تحجب عن فضاءاتها الغزو الثقافي والإعلامي؛ الأمر الذي كانت توفره إجراءات سيادية تقليدية من مثل إغلاق بوابات الحدود الجغرافية في وجه عمليات الغزو الآتية من خارج. حتى إنَّ عدداً من الخبراء الإنجليز راحوا يصفون هذه الظاهرة العالمية بـ"القوة الناعمة" التي تستطيع أن تحقق غاياتها الاستعمارية على نطاق واسع دون أن تخلق ردات فعل كلاسيكية ثورية من جانب الشعوب التي تتعرض كرامتها القومية للمهانة وسيادتها للانتهاك وأرضها للاحتلال.

بل إنَّ البعض من الباحثين يرى أن التأثيرات على السيادة الوطنية لا تتحدد بالمجال الإعلامي والمعلوماتي والاقتصادي، بل يتعدى ذلك إلى مجالات أخرى أكثر خطورة؛ وهي: المجال الثقافي والهوية القومية؛ من خلال القدرة على خلق سلوكيات ومفاهيم جديدة ربما تناقض ما هو ثابت ومستقر. صحيح أنَّ التكنولوجيا الإعلامية -كما يشير الباحث سويم العزي- قرَّبت بين أصقاع العالم وسكانه من خلال تزويدهم بالمعلومات والمعطيات، موفرة للجميع فرص التعلم والتثقف ضمن إطار تطوير المجتمع الإنساني. ولتحقيق هذا التطور، تقوم الثقافة التي تنشرها التكنولوجيا برسم وتخطيط الشخصية وهوية الإنسان. ولكونها ثقافة كونية لا تتحدد بإقليم ما أو دولة معينة، فإنها تخلق الإنسان الكوني، فتدخل بهذا الشكل في تعارض مع كل خصوصية أو أصولية، أساس ذلك التعدد والاختلاف في ثقافات الأجناس والشعوب؛ فتفرض بهذه الطريقة نمط تفكيرها الذي يمكن وصفه بالأحادي البعد.

لكنَّ البعضَ الآخر يختلف مع هذه الرؤى المتداولة، ويعتقد أنَّ هذا الجديد الوافد سيصب حتماً في صالح الشعوب الأخرى التي لا تملك الكثير من المقومات الاقتصادية أو الاجتماعية أو التكنولوجية، إلى جانب أن هذا التطور سيساهم في "إزالة مشاعر الاختلاف بينها، ويقوي قواعد التضامن الإنساني، إلا أن إيجابية هذا التطور يثير الخشية من موت ثقافات المجتمعات التي تبدو مقارنة بالثقافة الكونية، متخلفة وغير قادرة على إشباع الحاجات الأساسية للإنسان، علماً بأن فعالية أي ثقافة جديدة في إحلال قيمها محل القيم السائدة واتخاذها مصدراً للتصرف، يتوقف على قدرة نظامها الاقتصادي على إشباع الحاجات الأساسية وتزويد الأفراد بالتعويض. ولما كانت الثقافة الكونية ثقافة غربية الأصول؛ لأنَّ مصدرها الدول الغنية مالكة التكنولوجيا، فإنَّ تغلغل قيمها في عالم الجنوب يبدو أمراً حتميًّا، إن لم تحاول ثقافات عالم الجنوب التصدي لها من خلال تطوير قواعدها العلمية والتقنية. ولا شك أنَّ هذه الثورة المعلوماتية والتبادل الحر للإعلام في عالم اليوم سيقلص بشكل أو بآخر من تأثير الدول والحكومات العربية على وسائل الإعلام بصورة كبيرة، وسيُسهم في بلورة مفاهيم جديدة لهذا الإعلام المتدفق الحر، وإذ كان بمقدور بعض الدول أن تحد في الوقت الراهن وبصورة جزئية من التدفق الإعلامي والمعلوماتي القادم إليها الخارج، فإنَّ هذه القدرة سوف تتراجع إلى حد كبير وقد تنعدم في المستقبل، خاصة في ظل وجود العشرات من الأقمار الصناعية التي تتنافس على الفضاء. كما أنَّ توظيف التكنولوجيا الحديثة في عمليات التبادل التجاري والمعاملات المالية يحدُّ من قدرة الحكومات على ضبط هذه الأمور؛ مما سيكون له تأثيره بالطبع على سياساتها المالية والضريبية وقدرتها على محاربة الجرائم المالية والاقتصادية.

وبالإضافة إلى ما سبق، فإنَّ القوة الاقتصادية والمالية التي تمثلها الشركات مُتعددة الجنسية، خاصة مع اتجاه بعضها نحو الاندماج والتكتل في كيانات أكبر، إنما تسمح لها بممارسة المزيد من الضغط على الحكومات، خاصة في العالم الثالث، والتأثير على سياساتها وقراراتها السيادية، وليس بجديد القول إنَّ رأسمال شركة واحدة من الشركات العالمية العملاقة يفوق إجمالي الدخل القومي لعشر أو خمس عشرة دولة إفريقية مجتمعة، وهو ما يجعل هذه الكيانات في وضع أقوى من الدول. وسيصحب هذا التدفق الإعلامي والمعلوماتي اختلالٌ واضحٌ للتوازن بحكم الفارق الكبير بين قدرات الدول المتقدمة وإمكانياتنا العربية الإعلامية والتكنولوجية. والمخرج الإيجابي الذي نعتقده هو الانفتاح الإعلامي -الرسمي الحكومي- على وجه الخصوص، أنَّ يتفاعل مع الجديد القادم واستيعاب النظم المتطورة وإدماجها في وسائلنا الإعلامية وتأهيل الكوادر الوطنية، وإعطاء المساحة للحرية الإعلامية في مجال التناول والنقاش في قضايانا، وهذا هو الرِّهان الذي يجب الاستناد إليه في مواجهة هذا الاختراق الإعلامي الكبير.

تعليق عبر الفيس بوك