حياة.. رغم كل شيء "1"

عهود الأشخرية

هذه المرة يجب أن نحتفل بطريقة مختلفة، نحتفل كثيرًا بالبشريّة التي صنعت لنا هذا العالم بالفن والجمال والأدب والعلوم. إمكانيّة الحياة صارت لنا أكثر رغم أنّهم ربما لم يعرفوا هذه الحياة في أوقات كثيرة، أتحدث هنا عن مجموعة رغم الوضع التعيس الذي عاشوا فيه سواء كان اجتماعيا أو سياسيا أو حتى عانوا من كميات الجهل والتخلف بشتى أنواعه إلا أنّهم صنعوا عوالم بديعة وتفننوا في صنع الأمل فهذه هي الحياة (حياة.. رغم كل شيء)، هؤلاء الذين أعنيهم بكل كفاحهم يمثلهم قول الكاتب (سماء عيسى): "كانت الزهرة تنمو بين خرائب صغيرة"؛ فهم الزهرة في خراب هذا العالم. وإن كان الألم الحقيقي هو حقًا سبب لكل ذلك الجمال رغم أنني أظن أنّ الرغبة تأتي أولا؛ ثمّة شيء يدفع الإنسان من الداخل للكتابة أو للرسم أو الإبداع في شيء ضمن المفهوم الجمالي فإنّ نزيه أبوعفش كان يشكر الألم لأنّ وحده يجعل القلوب أوسع وبامكانها أن تحمل كل ثقل الوجود لتبعث فيه الجمال أخيرًا.

بداية من الموسيقى وكما يقال أنّ الموسيقى كانت أول أمهات العالم وهي لغة أولى لكل شيء في هذا الوجود؛ لغة الطبيعة والحب والضوء.. وثمة من هم منحونا هذه السمة الجمالية وهذا الاتساع الوجودي بفضل معزوفاتهم الخالدة. بيتهوفن مثال على ذلك وهو من مواليد 1770 في مدينة بون الألمانية، وكان لبيتهوفن عظيم الأثر في تطوّر الموسيقى الكلاسيكيّة وقد بدأ يعزف وهو صغير ويعتبر من أهم عباقرة الموسيقى في جميع العصور، وقد ألف تسعة مؤلفات للأوركسترا وخمس مقطوعات موسيقية على البيانو ومقطوعة على الكمان لكن حياته في الأساس كانت قاسية جدًا فوالده مدمن كحول ولم يكن أبًا مثاليًا لطفل واعد مثله، وما زاد آلامه أنّ والدته توفيت وهو في السابعة عشرة وذلك ما ترك عليه مسؤوليات كثيرة وصعوبات بين محاولة الحياة والشغف في الموسيقى، لكنّه تجاوزها وقام بمساهمات كثيرة لأجل الموسيقى، وما زاد بيتهوفن ألما أنّه فقد سمعه وأصيب بالصمم وهو في الثلاثينايت من عمره لكن قسوة هذا الأمر لم تؤثر على إنتاجه بل جعلته أكثر وعيًا حيث ابتكر طريقته الخاصة للعزف عن طريق تحسس اهتزازات البيانو عن طريق ساقيه وأحيانًا كان يجلس على الأرض ليحس بالموسيقى فبهذه الطريقة كان يعوض فقد السمع بتقوية إحساسه بما حوله، لم يفقد الأمل في الجمال على الإطلاق.

ولا أريد أن أذهب بعيدًا بالأمثلة، سأذكر محمد عبدالوهاب الذي واجه الكثير من الصعوبات حتى وصل إلى ما وصل إليه حيث إنّ أسرته كانت معترضة على توجهاته الموسيقيّة، وهناك أيضًا سيد سالم وهو عازف ناي في فرقة أم كلثوم واستطاع أن يدخل تعديلات على الناي لزيادة طبقاته الصوتيّة ومن قدرته الهائلة في عزف الناي فقد استطاع أن يصنع نايًا من ورق الكارتون ويعزف عليه، لكنّه في الحقيقة عاش طفولة تعيسة جدًا وأفكار دعته إلى الهرب من عائلته التي عارضت كل ما يفعله. هؤلاء جميعًا ورغم الصعوبات التي واجهوها فقد استطاعوا أيضًا أن يبرهنوا أنّ ثمة شيء يستحق الحياة في هذا العالم، وقد عملوا على تطوير هذا الشيء الذي وصل إلينا وما زال يصل إلى اليوم كي نتمسك أيضا بالأشياء الجميلة التي تمنحنا ضوءًا من أمل يدفعنا للبقاء.

أمّا الفلسفة وهي وقوع الإنسان في دائرة السؤال دائما، في دائرة الشك من الأشياء ومن الزمن كله، كمثال مهم أذكر هنا فريدريك نيتشه وهو فيلسوف ألماني ولد عام 1844 لقس بروتستانتي، كان نيتشه من أبرز الذين فتحوا الطريق أمام علم النفس ويعد إلهاما للمدارس الوجوديّة وما بعد الحداثة في مجالات الأدب والفلسفة لأنّه كان شاعرًا أيضا وله الكثير من المؤلفات من أشهرها (هكذا تكلم زرادشت)، (إنسان مفرط في إنسانيّته)، (عدو المسيح)، هذا هو الإنسان وغيرها من المؤلفات التي لها ثقلها في العالم. لكن ماذا بالنسبة لحياة نيتشه؟ من يهتم لها أساسًا بعد كل ما فعله نيتشه لأجل حياته وبقي لأجل العالم، في سيرته يقول نيتشه: "أجل إنّي أعلم من أنا.. ومن أين نشأت/ أنا كاللهيب النهم، أحترق، وآكل نفسي"، كتب (عبد الرحمن بدوي) عن حياة نيتشه ومقدمة لأفكاره الفلسفية، وملخص ما كتبه بدوي عن نيتشه أنّ الإنسان العظيم يبدأ حين يدرك حجم مأساته، فقد عاش نيتشه حياة غريبة ليس واردًا جدًا أن يعيشها أحد. كانت حافلة بالألم والمرض لكنه احتملها رغم كل شيء وسخر منها أيضًا في (زرادشت) حين قال: "أهذه هي الحياة؟! إذن هاتها مرة أخرى!"، هذا كله لأنّ الحياة في أصلها صراع ولا بد أن تكون ندًا لها. أصيب نيتشه بمرض مُتعب وعاش معه حياة أخرى بين الصداع وآلام الجسد والاستفراغ الدائم، ورغم الحياة التي عاناها منذ طفولته فقد استطاع نيتشه أن يبني عالمه الخاص الذي يهرب إليه من كل شيء وقدم للعالم الكثير من الجمال على هيئة أفكار فلسفية ونفسية وأدبية.

وبالطبع فهناك مجالات أخرى، وآخرون أبدعوا في مجالات عديدة كالأدب والعلوم المختلفة والفنون رغم معاناتهم وحياتهم القاسية والوضع الذي كانوا مضطرين أن يعيشوا فيه، وكل هذه الأمثلة ما هي إلا دعوة لمد العالم بالجمال الخلاق للحاضر ولأوقات قادمة.

تعليق عبر الفيس بوك