سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟! (5)

د. صالح الفهدي

بناء الإنسان

كنتُ أنظرُ من نافذة الطائرة وهي تقتربُ من مطار سنغافورة، فأكاد لا أرى أرضاً لها عمق جغرافي؛ إذ إنَّ كلَّ ما كنت أراه هو عبارة عن مجموعة جُزر صغيرة ومستنقعات مائية مُشتَّتة! هذه هي سنغافورة الدولة/المدينة التي أبهرتْ العالم بنهضتها احتفلت في التاسع من هذا الشهر بالذكرى الخمسين لاستقلالها عام 1965م، ومن المفارقات القدرية أن القائد لي كوان يو (Lee Kuan Yew) الذي قاد سنغافورة منذ استقلالها رئيساً للوزراء، ووزيراً أول، ومستشاراً، قد ودَّعها هذا العام بعد أن رافقها في مسيرة النماء والتطوير لخمسين عاماً!! قصة بلد أشعرُ بكثير من الغرام نحوه منذ سنوات بعيدة، وأتُوق لمعرفة المزيد عن أسراره التي نقلته من العالم الثالث إلى العالم الأول. أسرار تستحق أن نتوقف عندها، وأن نتمعنها مليًّا، وأن نتعلم من دروسها.

كيف لا نتعلم منها وأكبر قوَّتين صاعدتين في العالم: الصين والهند -بجلال قدريهما، وسمو مكانتهما- قد هرعتا لتتعلما سر النهضة السنغافورية، وأسس نجاحها؟!

هذه الدولة/المدينة التي فُصلت عن (أو طُردت بالأحرى من) ماليزيا لم تكن تملك أيَّة موارد طبيعية، أو أية مقوِّمات دولة في بداية استقلالها؛ فكانت التوقعات تشير إلى أنَّ الفشلَ حليفها، وأنها ستتردى في الفقر والنزاعات كالصومال أو هاييتي..! قال "لي كوان يو" عنها في كتابه "من العالم الثالث إلى الأول": "سنغافورة لم تكن دولة طبيعية، بل من صنع البشر، محطة طورها البريطانيون لتصبح مركزا محورياً في إمبراطوريتهم البحرية العالمية، ورثنا الجزيرة دون أرض داخلية، قلباً دون جسد"..!

ويصفُ البروفيسور كيشور محبوباني ( Kishore Mahbubani) عميد كلية لي كوان يو، في محاضرة ألقاها للسياسة العامة بإمارة أبوظبي، حال بلاده: "إنَّ استقلال سنغافورة في العام 1965 لم يكن سعيداً عليها؛ لأنَّها لم تكن دولة وإنما مدينة تم اقتطاعها من ماليزيا، وإذا أخذت واقتطعت مدينةً من أرضها فلن تكون لها حياة. اتفق قادة البلدين في العام 1960 على أنها لن تنجح كدولة وستواجه الفشل؛ نظراً لعدم وجود أرض ولا موارد ولا نفط أو غاز أو معادن، إضافة إلى أنَّ سكانها المليوني نسمة مُنقسمين من الناحية العرقية بين الصينيين الذين يشكلون غالبية السكان والماليزيين والهنود".

ما هو السر الذي كان وراء المعجزة السنغافورية لتتحول هذا الدولة/المدينة من دولة فقر ونزاعات إلى واحدة من أكثر الدول دخلاً في العالم وهي تشتري الماء والرمل من ماليزيا لتكبس به شواطئها، ولتزيد به مساحتها التي لا تتعدى الـ700كم، وهي أقل بكثير عن مساحة شبه جزيرة سيناء المصرية البالغة في حدود 60 ألف كم؟!

أرى أنَّ سرها الأول هو بناء الإنسان، بناء القادة..! لقد ركزت على رأس المال الحقيقي لنهضة الأوطان.. الإنسان وحده القادر على تعويض الدول عن الموارد الطبيعية التي تفتقد إليها تماماً كما حدث لليابان. ولكي يُبنى الإنسان بناءً سليماً فقد "اختار لي كوان يو كثيرًا من الشخصيات الأكفياء للعمل في الحكومة لتوفير فريق عمل ناجح من الدرجة الأولى لصنع القرارات وتنفيذها" (عزام الدخيل علومهم، "نظرة في تعليم الدول العشر الأوائل في مجال التعليم عبر تعليمهم الأساسي"، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط.الأولى، 2014). يقول لي كوان يو مؤسس سنغافورة: "كلما زادت المواهب التي أستخدم أصحابها كوزراء ومديرين وحرفيين مُتخصصين، تنامت فاعلية وكفاءة السياسات التي أتبعها وتحسنت النتائج".

... إنَّ بناء الأوطان لا تقوم به إلا الكفاءات المخلصة التي تترجم الأفكار الخلاقة ترجمةً عملية في أرض الواقع، وفق معايير واضحة وشفافة، ولكي يُبنى الإنسان بناءً صحيحاً كان لابد من نظام تعليمي مُتمِّيز يكون قادراً على تشغيل العقل الإنساني بصورة فاعلية، وتوجيهه نحو الإبداع والابتكار والجودة في العمل. يقول كيشور محبوباني: "يتسم النظام التعليمي في سنغافورة بخصائص فريدة؛ أهمها: التخصص والاهتمام بالمعلم؛ باعتباره أهمَّ عنصر في العملية التعليمية. لقد جعلت التعليم من مهن الدرجة الأولى وحددت رواتب عالية للمعلمين؛ باعتبار أنَّ المعلم هو الوسيط الرئيسي والمهم في تزويد الطلاب بالمعارف والخبرات والمهارات المطلوبة؛ حيث إنَّ فهم الطلاب واستيعابهم وقدرتهم على تطبيق تلك المعارف مرهون بما يبذله المعلم من جهد وما يستخدمه من أساليب وإستراتيجيات في الفصل حتى أصبح الطلاب في سنغافورة اليوم يسيطرون على معظم المسابقات العلمية في العالم.. لقد استثمرت سنغافورة في التعليم أكثر من أي قطاع آخر".

ما أثار إعجابي أنَّه تزامناً مع احتفالات سنغافورة بالذكرى الخمسين لاستقلالها، يظهر الدبلوماسي والأكاديمي كيشور محبوباني بإصداره الذي عنوانه "هل يُمكن أن تعيش سنغافورة؟" (Can Singapore survive?)؛ الأمر الذي يبدو مُتناقضاً في ثقافتنا؛ إذ كيف يطرح مثل هذا السؤال المقلق في وقت يُفترض أن تعمُّ فيه الأفراح جميعَ الأرض السنغافورية؟! إنَّها -في نظري- قيمة البراجماتية أي النظرة العملية نحو المستقبل لا النظرة الضبابية الغائمة! ومع ذلك، فإنه والدبلوماسي المخضرم (Tommy Koh) يتفقان على أنَّ العامل الأعظم للتفاؤل بالمستقبل يكمُن في رأس المال البشري الذي أسسته سنغافورة في أرضية صلبة عمادها الأنظمة التعليمية، ودعم المواهب، وتحفيز الإبداعات، وتمكين القدرات، وتحفيز الكفاءات.

... إنَّ بناءَ الإنسان بناءً علميًّا ممنهجاً دفعه إلى ترسيخ ثلاث قيم أساسية في بناء الدولة السنغافورية هي: الجدارة/الجودة والبرجماتية والنزاهة/الأمانة.. يقول البروفيسور محبوباني عن النزاهة/الأمانة: "إنَّ قادة سنغافورة كانوا أشخاصاً يتمتعون بالنزاهة، لقد حددوا معايير للنزاهة. إنَّ قبول أي مسؤول في أي منصب على رشوة، فإنَّ ذلك يعرضه للسجن، وحين يحدث أمر غير طبيعي، فإنَّ ذلك يعني وجود مسؤولين غير طبيعين".

الدرس العظيم الذي نستلهمه من سنغافورة في ذكرى اليوبيل الذهبي لاستقلالها؛ هو: أنَّ الأوطان لا تفتقر بفقدان الموارد الطبيعية، وإنما بفقدان الإنسان الكفوء المخلص الذي يبني وطنه بجودة وفاعلية ونزاهة وأمانة...!

تعليق عبر الفيس بوك