سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟ (3)

تطبيق القيم

د. صالح الفهدي

سألني صحفي ذات مرّة: هل نحنُ بحاجة إلى برامج للقيم؟ فأجبته: ليس مجتمعنا وحده المحتاجُ إلى هكذا برامج بل العالم بأسره .. هل تعلم أن هناك توجهاً عالمياً لبناءً منظمات تدارُ بالقيم تسمى Values-Driven Organizations ؟! هل تعلم أن هناك نماءً في الدراسات والبحوث العالمية لفهم الدين وعلاقته بالحياة وكيفية الاستفادة منه في إصلاح الفساد والتضليل والأثرة والجشع الذي سببه الإنسان الذي صنع لنفسه إطاراً قائماً على النزوات والشهوات والرغبات المتمرّدة الخارجة عن أُطر القدسية والمنهج الرباني؟! وأضفتُ: منذ فترة كنتُ قادماً من لندن فجلس أحد الأمريكان إلى جانبي وتحدثنا عن القِيم ثم قرأ مقابلتي في صحيفة محلية باللغة الإنجليزية وبعد ذلك نظر إليّ وقال: نريدُ برنامجك هذا في أمريكا.. ثم أكد بالقول: أنا أعني هذا بكل صدق. هذا الطلب ينسجمُ مع دراسة أجراها جيمس باترسون وبيتر كيم(James Patterson & Peter Kim) أكدت أن 80% من المجتمع الأمريكي يؤيدون تدريس المبادئ والقيم الأخلاقية في المدارس الأمريكية(1).

في الغرب وخلال القرنين التاسع عشر والعشرين ارتكزت التساؤلات الفلسفية في مسألة القيم لدى فلاسفة من أمثال "نيتشه" و"ميشال فوكو" و"هايدغر"، وفي عصر التنوير في القرن الثامن عشر يقول فولتير"لا يوجد إلا منهج أخلاقي واحد، كما لا يوجد إلا علم هندسي واحد" .. هذا يقيناً مستمد من الإيمان بالخالق ورسالته على الأرض، لكن الإشكالية في نظر "جيروم بندي"(2) تكمن في أن "المحاولات المتعددة لتجريد القيم من قدسيتها وتحويلها إلى أغطية أيديلوجية تتستر خلفها آليات سلطوية أسهمت في زعزعة الاعتقاد الفلسفي والديني والفني بالحق والخير والجمال كقيم مطلقة".

إنني أجد نفسي متفقاً مع الكثير مما قال كويشيرو ماتسوا الأمين العام الأسبق لمنظمة اليونسكو(3) "أن الأزمة التي نجتازها تدل على أننا أضعنا بوصلتنا الأخلاقية، ولم نعد نتمكن من تحديد الاتجاه الصحيح. لا توجد أزمة قيم - وعندنا منها الكثير- بقدر ما توجد أزمة في تحديد معنى القيم وفي الاستعداد والأهلية لإدارة شؤوننا فالمسألة الملحّة تتلخص إذن في معرفة كيفية توجهنا بين القيم"

والإتفاقُ عندي يكمنُ في فكرة أن القيم هي الفطرة التي فطر الناس عليها، وهي كامنة فيهم تحتاجُ إلى تعزيز، وإحياء بالإرواء النفسي والعقلاني.

إن سؤال الصحفي ذاك إنما يعكس التناقضات التي نعيشها بين وهم عدم الحاجةِ إلى تعزيز القيم وبين الإشكاليات الأخلاقية التي تظهر أو تنسربُ تحت السطح بأشكالٍ مختلفة والتي أوضحتُ صوراً كثيرة منها في كتابي القادم"نقد الحال الراهن". ففي حين كان الطلاّب العمانيين يدرسون حصّة تسمّى "التهذيب" في المدرسة السعيدية، يعتقد البعض أنه لا حاجة لإعادة مثل هذه الحصّة، مع التغيّر الكبير الذي حصل في هشاشة الأخلاقيات، وتضعضع الأُسس التربوية..!

إننا نواجه إشكاليات ذات أثر وهي أننا نعتقدُ نظرياً بحاجتنا للأخلاقِ ولا نكاد نفعل شيئاً لدعم البرامج والطرق التي تكرّس جذور هذه الأخلاق في المجتمع. كما أن البعض من الذين فهموا القشور من ثقافات الدول المتقدمة اقتصادياً وتعليمياً واجتماعياً يروّجون بأن ذلك تم دون قاعدةٍ من الأخلاق، ففي نظرهم أن القانون البشري هو أساس التقدّم، مع انسحاب الدين من الحياة، غير واعين بأن الدّين هو أصلُ الأخلاق، لأن الدّين هو فطرة الإنسان في الأصل.

ذات مرّة سئل وزير التعليم الياباني عن سر التقدم والتفوق الذي أحرزته اليابان، قال:"السرُّ يرجع إلى تربيتنا الأخلاقية"(4). هذا الكلام ليس إنشائياً، مهلهلاً كما يقوله الكثيرون في مجتمعاتنا، إنما له تطبيقاته العملية في المجتمع الياباني، ففي اليابان تدرّس مادة عنوانها "طريق إلى الأخلاق" من السنة الأولى إلى السنة السادسة ابتدائي، يتعلم فيها التّلاميذ الأخلاق والتعامل مع الناس..!! وفي المدارس اليابانية ينظف الأطفال اليابانيون مدارسهم كل يوم لمدة ربع ساعة مع المدرسين، مما أدى إلى ظهور جيل ياباني متواضع وحريص على النظافة. وفي القطارات والمطاعم والأماكن المغلقة يمنع استخدام الهاتف النقّال، حيث تطلق كلمة"Manners" على خاصيّة الوضع الصامت في الهاتف وتعني الأخلاق..! في المطاعم التي تقدّم نظام البوفيه لا تجدُ أحداً يأخذ أكثر من قدره، ولا يترك بقية طعامٍ في صحنه..! قارنه بالمشاهد التي تراها في مطاعمنا، تجد أن كثرين لو استوعبت صحونهم كامل البوفيه لما ترددوا لحظة..! في اليابان يقدّر المجتمع قيمة الوقت لهذا فإن معدّل تأخر القطارات خلال العام هو 7 ثوانٍ فقط..!!

باختصار نقول: إن مسألة تطبيق القيم لا تعني إطلاقاً التوقف عند تضمينها في المناهج وإنّما في جميع شؤون الحياة لكي تنضبط سلوكيات الإنسان وفْقَها، تعززها البرامج الإعلامية كالبرامج القيمية والأفلام، والقدوات الفاضلة، والنماذج السلوكية الراقية. إن أعظم ما يمكنُ تطبيق القيم في المجتمع على منهاجه هو الملاحظة أو ما يسمى في العلوم الاجتماعية الحديثة "نظرية باندوراBandura" وهي طريقة ترتكز على قيمة التفاعل الاجتماعي الواقعي مما يعني التعلم في محيط اجتماعي لا في بطون الكتب وحسب..!

إن الله سبحانه وتعالى قد بيّن أثر القدوة الحسنة فوصف نبيّه الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام بقوله سبحانه " لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا"الأحزاب/21، مما يدلّ على علّو شأن القدوة والتقليد الحسن من أجل اكتساب الأنماط السلوكية السويّة، والأفكار السديدة، ويؤكد أرسطو "أن التقليد يزرع في الإنسان منذ الطفولة، وأحد الاختلافات بين الناس والحيوانات الأخرى يتمثل في أنه أكثر الكائنات الحية محاكاة، ومن خلال المحاكاة يتعلم أول دروسه".

إنّ إقامة الندوات أو المؤتمرات أو قبيلها لا تقدّم شيئاً يُذكر مقابل البرامج العملية التي تربط المتعلم بالواقع المعاش، وتشركه في عملية التفاعل المباشر. كما أنّ البرامج الإعلامية الهادفة هي وسيلة من وسائل تطبيق القيم، والحرص على التشبّث بها واعتبارها مكوّناً مهماً من مكونات الحياة الإنسانية. هذا إلى جانب أهمية إبراز كل نموذج إنساني يمكن أن يكون مصدر قدوة أو ملاحظة إيجابية فإنه يخدمُ هذا الهدف. ثم يأتي دور القانون الذي يصون هذه المكتسبات أو يرسّخها بمعنى أصح لتتجذر في الثقافة الاجتماعية وتصبح سلوكاً سويّاً في المجتمع، وعادة من عاداته الاجتماعية التي يُعرف بها وتتسم بها ثقافته.

(1) د. محمد بن سعود البشر، السقوط من الداخل، ص29.

(2) في مقدمة كتاب"القيم إلى أين؟"الصادر عن المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون "بيت الحكمة"واليونسكو بقرطاج عام 2005م.

(3) المصدر أعلاه.

(4) أبادير حكيم، التربية الأخلاقية، ص 226. نقلاً عن د. مقداد يالجن، منابع مشكلات الأمة الإسلامية والعالم المعاصر، ص 51.

تعليق عبر الفيس بوك