منح التي منحتنا شموخها

د. سعيدة بنت خاطر الفارسي

هناك مقولة تقول: "اعرف وطنك أولا". وهذا يعني ابدأ بالسياحة الداخلية، ثم انطلق منها للخارج؛ فإنه من المحرج جدًّا أن يسألك الآخر: كم تبعُد منح عن العاصمة مسقط؟ أو ما رأيك بحصن الشموخ؟ أو ماذا تعرف عن قلعة الفيقين؟ أو أين تقع كلية السلطان قابوس لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها؟ آنذاك من العيب أن تقول له لحظة سأستعين بـ"العم جوجل"، بلادك ينبغي أن يكون جوجلها في داخلك، ومن العيب أن تعرف دولا في الشرق والغرب، لكن إن سألك: بماذا تمتاز ولاية سدح؟ فتحت فمك عشرة أمتار من الحيرة والدهشة، أو أن تذهب للأجواء الخريفية الجميلة في صلالة، ولا تذهب لمرباط التاريخية مثلا. والحقيقة، لم تكن كاتبة هذا المقال بأفضل حال منكم؛ فقد كنتُ أعرف المدن البارزة: صلالة، صور، نزوى، مسقط، صحار والبريمي، ثم تتضاءل معرفتي ببقية المدن العمانية في الذهن، وليس في القلب بالطبع، لقد توافرتْ لي -ربما دون غيري- الفرصة لمعرفة وطني من خلال الخطة التي اختطها صالوني الثقافي لمسيرته، التي كانت أولى توجهاتها أن تنقل الفعالية الثقافية إلى المدن والقرى ونخرج من حالة تمركز الثقافة في العاصمة.

ثمَّ أكْمَلنا هذا التوجه بتوجه آخر، وهو أن ينتقل الصالون ليس للمدن العمانية الكبيرة المعروفة، التي لا ينقصها الزخم والاهتمام الرسمي والإعلامي، بل نتخيَّر الولايات التي يخفت عنها الضوء نوعًا ما؛ فكان الاختيار على منح من الداخلية، والسويق من الباطنة، والقابل من الشرقية، ومحضة من محافظة البريمي...وغيرها من المدن العمانية المستوطنة القلوب، والمتجافية عنها الدروب. أما التوجُّه الثالث، فكان يتمثَّل في تحديد اليوم الثاني من الفعالية للتعرف على أبرز ملامح المدينة؛ فالفائدة مُتبادلة بين المبدع والمدينة، هو يمنحها نبضه ومشاعره، وهي تمنحه عمقها وجماليات ملامحها، وكانت منح الانطلاقة والصدر الأول الذي استقبلنا استقبالا حافلا عبر دعوة حميمية وجهها إلينا الزميل المكرَّم زهران الحضرمي رئيس نادي الشموخ للفروسية وسباق الخيل؛ لرؤية منح، ومن ثمَّ التعرُّف على نادي الشموخ وما يُقدمه للشبيبة من برامج تدريب على الفروسية، وهو النادي الذي اهتمَّ به الزميل زهران اهتمامًا بالغا، وأوقف جهوده الذاتية والمالية لتطويره، حتى أصبح ملمحا جميلا من ملامح الولاية.

سُمِّيت منح بهذا الاسم حسب ما ورد في معاجم اللغة كجمع لكلمة (منحة) أي الهبة والعطاء؛ فهي بهذا تصرِّح عن مكنونها من الخيرات والمحاصيل الزراعية، وسُمِّيت أيضا بأم الفقير لما تهبه للفقراء من الخير والرزق. ومن زيارتنا لهذه الولاية خرجنا بعدة انطباعات نجملها فيما يلي:

- إنَّ الولاية لا تبتعد عن نزوى مركز محافظة الداخلية سوى بضعة كيلومترات لا تزيد على 15 كيلومترا. ومع هذا، كلنا زار نزوى عدة مرات لكن معظم القرى والمدن التي تحيط بنزوى شبه مجهولة بالنسبة لغير أهلها، حتى وإن كانت على مرمى حجر من المدينة المركز.

- إنَّ المدينة بها ما يستحق الزيارة والرؤية من الملامح السياحية والطبيعية، كحصن الشموخ الذي تشتهر به الولاية والذي يقع في قرية عز.

وكلية السلطان قابوس لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، ويوجد في الولاية قلعة الفيقين التي قام ببنائها الشيخ مسعود بن محمد بن سليمان البوسعيدي عام 1027هـ/1617م في فترة حكم النباهنة، وتعتبر القلعة لغزاً حقيقياً وسرًّا من أسرار العمارة العسكرية التقليدية العمانية، فهي قلعة مهيبة وحصينة وشامخة، وتتكوَّن من أربعة أدوار تضم مجموعة من الغرف والمخازن، وعند مدخل القلعة الصغير يوجد بئر ماء، وكل دور من أدوار القلعة متصل بالبئر وذلك عن طريق فتحة تصل الدور الرابع بالدور الأرضي. وتتعدد المعالم السياحية في الولاية من مساجد أثرية إلى قلاع إلى كهوف إلى أفلاج وممرات مائية، ويقدر عدد الأفلاج بأكثر من 13 فلجا؛ أشهرها: فلج مالك المندثر، وأشهرها حاليا الفيقين، والمصرج والخطم والصِلَيْب.

نعم.. استقبلتنا منح بقلبها، وشرعتْ أبواب الترحيب والحفاوة في وجهنا؛ فكان هذا الحضور الكبير لجمهور متميز ولعدد من المشايخ والأعيان والمثقفين والمهتمين من المواطنين. ومن خلال هذا اللقاء، اتَّضح مدى تعاون أهل المدينة لأبراز الوجه الإيجابي والأفضل لمدينتهم؛ فقد اجتهدتْ جمعية المرأة العمانية رئيسة وعضوات للتحضير للفعالية وإنجاحها بالحضور المميز للمرأة ولمساتها الفنية؛ فتحيَّة للأستاذة خالصة بنت سعيد التوبي رئيسة جمعية المرأة بمنح وزميلاتها، واجتهد الأستاذ طلال بن خلفان العبري الدمث أخلاقا وسلوكا، بوجهه المتبسم سماحة وبشرا في التعريف بكلية السلطان قابوس واستضافة أعضاء الصالون بها، والاجتهاد في خدمتهم كأنه أصغر القوم، وهو المسؤول الكبير الذي لم يستنكف عن خدمة ضيوفه والاهتمام بهم والسهر على راحتهم، واجتهد أدباء المنطقة ومثقفوها؛ فحضر الزميل محمد الحضرمي للنقل والتوثيق الإعلامي، وحضر الأديب مؤمن قلم الهنائي وأسرته للمشاركة بالحضور والنشر الإعلامي، وحضر الشاعر المتميز يونس البوسعيدي، وشاركت الجوهرة الشرياني -وهي أصلا عضوة في الصالون- ثم لم يتوقف الأمر عند الأمسية والمشاركة والاحتفاء والحضور، بل عكست ضيافة الناس وسعة القلوب صدق مقولة "وسميت منح بأم الفقير لما تهبه للفقراء من الخير والرزق"؛ فكان أن تكدس علينا الكرم الحاتمي من أهل منح رغم تواضع حال الناس، لكن الكرم فيهم سجية وفضيلة من الفضائل لا ترتبط بالغنى ووفرة المال؛ فهذا مدرب الخيول الفاضل/ علي بن جمعة العبدلي، بعد أن رافقنا في نادي الشموخ للفروسية، في جولة تدريبية بالنادي، ثم في الجولة الصباحية للتعرف على ملامح المدينة، ها هو يجالسنا تحت ظل شجرة وريف، وقد فاء بالخير العميم من عمل يد والدته المباركة؛ فقدم لنا أصنافا محلية من الأكلات التي تشتهر بها الولاية، وكان بإمكانه اللجوء للشراء من أي مطعم، لكن طبع الضيافة العربي المتأصل فيهم رفض إلا إتمامها هكذا، ثم تنقلنا من بيت إلى آخر بعد إلحاح شديد من أهل الولاية، ولم ينقذنا من هذا الكرم إلا وجود ضيوف من الخارج معنا؛ تعللنا بأنه يجب أن نرجع بهم مسقط فورا، وإلا لفاتهم موعد الإقلاع، وهكذا تملصنا بأعجوبة من أريحية يونس البوسعيدي، والجوهرة، والحضرمي...وغيرهم، مُعتذرين لعطر خصالهم المستقر في الذاكرة للأبد.

وبعد كلِّ هذه الجماليات والصفات النقية لدى الأرض وأهلها، لا يستغرب أحد لماذا اتخذ جلالته من منح مقرا لإقامته مؤخرا، وهناك كثير من المدن العمانية الأجمل والألطف مناخا!! لكنَّ زيارتنا لمنح أوضحت لنا لماذا، فبالإضافة لأريحية الناس وصدقهم ونقائهم، وجدنا الأرض أيضا مختلفة؛ فعندما خرجنا مساء مشيا على الأقدام شعرنا بكمية هواء نقي صاف يخترق الرئة فينعشها هواء لايمت بصلة للتلوث والعبث المجاني والاستهانة بحياة الناس، على كوكب كاد أن يقتل كائناته الحية المختلفة بسمومه الكيماوية ومخلفات حروبه.

وأخيرا.. منح، شكرا لك بحجم ما لكِ في تاريخ عماننا من تأثيرات إيجابية، وبحجم ما لكِ في قلوبنا من ذكريات حميمية دائمة الاخضرار.

شكرا منح.. صدقا إن ما وجدناه فيك من حفاوة هو الذي شجَّع صالوننا الثقافي على المضي قدما في مشواره الصعب، والمغاير للصالونات الثقافية الأخرى، وهو الذي أكسبنا الثقة لمواصلة التجربة، وأفاء علينا من شموخك الكثير.

تعليق عبر الفيس بوك