سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟(2)

تطبيق القيم

د. صالح الفهدي

 

قال لي معلّمٌ في لقاءٍ جمعني بمجموعةٍ من المعلّمين ذات مرّة: إننا ندرّسُ القيم للطلاّب ولكن (ضرب مثلاً شعبياً مفاده أنّه لا فائدةَ من ذلك) فقلتُ له: أخي العزيز إن للكلمة دورها المحدود في تطبيق القيم، وتعزيزها في نفسيّات البشر، فهناك من الوسائل المؤثرة لتحقيق هذا الهدفِ النبيل.

إننا واقعون في متناقضاتٍ جسيمة فنحنُ نعيشُ بين المثال والواقع المعاش، أمّا المثال فهو ما ننهلهُ ونستقيه من عقائد ومقاصد وتشريعات وأحكام كلّها قيمٌ رفيعةٌ، وشمائل محمودة يزخرُ بها ديننا الحنيف قرآناً وسنّة. في حين أن الواقع يشهدُ الكثير من الشروخات المؤلمة التي تجعلنا شخصيات مركّبة، تحيا الإزدواجية إلى حدّ الإنفصام..!. حينما كنتُ أُجري بحثاً عن مدى تطبيق القيم الإسلامية في مؤسسات القطاع الحكومي كانت الإجابات في مجملها تأتيني على هذا النحو: إننا نعرفُ القيم الإسلامية لكننا لا نطبّقها في العمل..! وهذا هو الواقع فأغلبنا-إن لم يكن كلّنا- نؤمنُ يقينا بقيم العدل والمساواة والإحترام والكفاءة والنظام والأمانة ولكننا حين نبحثُ عنها في واقع العمل نجدها مشوّهةً، مستلبةً، تظهرُ لنا بوجهٍ جميل، وتخفي وجهها القبيح عنا..!

هذا يعني أننا نواجه إشكالية حضارية تتمثّل في عدم "تطبيق القيم" وأن ما ندركه هو مجرّد فهمٍ سطحيّ لهذه القيم التي لا تتجذر عميقاً في ضمائرنا، لتخرج بصورة سلوكياتٍ حياتيةٍ نلمسها في الواقع. إن في ذهني الآن دولة كنموذج في تطبيق القيم هي سويسرا. وهنا لا يجب أن يُفهم هذا السياق بأننا نقصدُ شمولية القيم الرفيعة التي اكتنفها ديننا، وإنّما قيم رسّختها شعوب فأصبحت منهج حياةٍ بالنسبةِ لها، لا يتنصلُ منها إلا شاذ..! والحديثُ هنا يأتي في سياق الإستفادةِ من تجاربِ الآخر فهذا هو الأحرى والأجدى لنا كشعوبٍ لديها من الثراءِ الإيماني ما يشكّلُ مخزوناً عميقاً يحتوي العالم بأسرهِ. في سويسرا كنتُ أتحدّثُ إلى امرأتين سويسريتان إحداهما تنحدرُ من أصلٍ عربي لم يفقد الإستقرارُ الطويلُ لسانها العربي وفخرها بانتمائها العربي. كانت مِعْبراً لنا نحو ما نريدُ أن نستقيه من الثقافة القيمية السويسرية فكان سؤالي الذي يشكّل شغلي الشاغل هو: ما الذي أعجبك في الشعبِ السويسري؟! فقالت المرأة: أولاً أعجبتني قيمة الأمانة، فهناك من المحلات التجارية التي تعرضُ بضاعتها دون محاسب..! يشتري منها الزبون ما يُريد من الخضار أو الفواكهِ أو ما شابه، ويحاسبُ نفسه مالياً في سلّة النقود المفتوحة، ويسترجع ما بقي له من مبالغ دون رقيب أو حسيب سوى نفسه..!! هل يتصوّر الواحدُ منّا أن يكون في مجتمعاتنا مثل هذه المحلاّت المشرعة الأبواب، تعرضُ سلعتها دون بائع، فيقوم المشتري بدور البائع فيها..؟ كما أن في سويسرا حدائق زهور دون بائعين، فيدخلها الراغب في شراء الزهور، متناولاً المقصّ الذي يقطعُ به الزهور، ويقطعها بحسب المقاسات المعروفة، ثم يحاسبُ نفسه، ويمضي بضميرٍ مرتاح..!!

حين رويتُ هذه الصورة لشبابٍ عربي، نظروا بذهولٍ في وجوه بعضهم البعض وفرقعوا ضحكاً..! قال أستاذٌ جامعي من بينهم: أنظروا فقد ضحكنا لمجرّد تصوّرنا أن يكون في مجتمعاتنا مثل هذه المحلاّت..! لقد تخيّل الجميع وجود هذه المحلاّت ورأوا صورةً عبثيةً فوضوية تسودها لهذا ضحكوا ..!.

هذه الصورة المثالية جداً للمحلاّت غير مستغربة في سويسرا إن علمنا أن العالم بأسره حكوماتٍ وأفراد قد ائتمن سويسرا على أمواله فأصبحت خزينة العالم ..!

نعود إلى كلام المرأة السويسرية التي تستكمل: أعجبتني كذلك قيمة الصدق، فالكذب مذمومٌ عند السويسريين فإن كذب أحدهم كذبة فقد الآخر الثقة فيه..! كانت المرأة الأُخرى السويسرية النشئةِ تؤكّدُ هذا حين تترجم لها صاحبتها العربيّة ما تقول. أضافت: تعجبني فيهم الصراحة فلا أحد يغتابُ أحداً وراء ظهره، إذ يعدّون ذلك من النقائص المذمومة في الشخصية. كما أنهم لا يتدخلون في شؤون بعضهم البعض فكل واحدٍ له حياته الخاصّة ولا دخل للآخر بها. وتواصل الحديث: أعظم ما يمقتون هو العنصرية، فيعتبرون مجرّد التلميح لها إساءة للكرامة الإنسانية، تقول: ذات مرّة أخطأت عند ابنتي بذكر كلمةٍ عنصريّة فصدِمت ابنتي ونَظرت لي نظرة مستنكرة فيها عتبٌ شديد عليّ، قائلة لي بأنني يجبُ أن أتجنّب مثل هذه الكلمات التي قد توقعني في حرجٍ إن لم يكن في مسائلةٍ قانونية..!

ولو أردنا أن نسبرَ الأغوار، ونستطلع الأسرار، وراء هذا التطبيق الحازم، والالتزام الصارم بهذه القيم لوجدنا ثلاثة أمور هي ما استطعت في زيارتي القصيرة أن أتعرّف إليها وهي: أولاً: المنهج التعليمي الواقعي الذي يربط الطالب بالحياةِ بما فيها من إنسانٍ، وحيوان، وطبيعة، ووجود، ونظام معيشي، فتجدُ الطالب بعد أن تفاعل مع هذه الكائنات والأنظمة استوعب فكرتها، وتشبّع من مقاصدها، وترسّخت في أعماقه الآثار الإيجابية التي تنطلي عليه كنتائج لحرصه على تطبيقها. ثانياً: مجانية المعرفة والمتجسدة في توزيع الصحف الرئيسية مجاناً في الشوارع والمحطات والأسواق وغيرها، فيعودُ الفردُ إلى بيته وقد أثرى نفسه بالإطلاع، وتزوّد بالمعرفة بصورة يومية. ثالثاً: النظام الديمقراطي المباشر حيث أن صوت المواطن يمثّل قيمة مهمة لتغيير السياسات في بلدٍ يقوده مجلس مشكّل من سبعة أفراد يمثلون الأحزاب ذات الأغلبية. يقول الباحث زياد سمير " وبذلك نرى أن سويسرا تعد في وقتنا الحالي من الـدول القليلـة أو النادرة التي تعطي الرأي العام وزنه ودوره في الحياة السياسية، وبما يحقق له ما يطمح إليه وما يريده"[1].هذا الأمر من شأنه أن يُنتج مواطناً مسؤولاً يشعرُ بأن صوته يغيّر سياسة، وأن كل فعلٍ أو قولٍ يصدرُ منه إنّما ينصبُّ لصالحِ أو لطالحِ وطنه، لذلك فإن معدّل الجريمة في سويسرا منخفض كنتيجةٍ لهذه القيم التي تربّى عليها المجتمع. وهناك قيمةٌ لا تنطقها الألسن ولكن تنطقها الطبيعةفتردَّدَت في نفسي وأنا أرى الجبال الشامخة الصلدة وقد اخترقتها عزائم الإنسان السويسري وإرادته العظيمة في بلدٍ يحتوي على 232 جبلا يتفاوت ارتفاعها بين 3000 إلى 4000 متراً، فإذا بها لا تقفُ بصلادتها وقسمتها وشموخها عقبة أمام الإنسان الذي اخترقها بأنفاقٍ تصلُ إلى عشرات الأميال فإذا بالجبال وكأنّها قبابٌ من السكّرِ المنضود في مواسم الشتاء..!

من المؤسف ألا يرى البعض إلاّ الصورة التي يودُّ أن يراها عن بعض الدول المتقدّمة، فإن ذكرت له دولةٌ بعينها فأثني عليها، قال: لكنّ فسادها عامٌّ، وانحلالها سائد، وهي غارقةٌ في الرذائل..!! هذا هو الستار الحضاري الذي يحجبُ العيون إلاّ عن رؤية نقائص وعيوب الآخر..!! ولعلّ في سعي العلماء المسلمين الأوائل إجابةً شافية، فقد أسسوا لنهضة الأمة بترجمة ما ينفعهم من علوم الحضارات القائمة، فأضافوا إليها من إنتاجاتهم العلمية.

ولو نظرنا إلى سر تقدّم الدول لوجدنا أن تطبيق القيم الرفيعة هو السبب الرئيس، أكان ذلك بفضلٍ من دينٍ شائعٍ، أو منهجٍ وضعي، أو تشريعٍ قانوني. وأعودُ لأقول: إننا ما لم نسع إلى تطبيق القيم بوسائل تربوية وعلى كافة المستويات والمكوّنات المجتمعية فلا يجبُ علينا أن نزعم تطبيق القيم، ثم نتساءل ما سبب الإشكاليات الأخلاقية التي تنشأُ في مجتمعاتنا..؟!.

 

 


[1]- الدباغ، زياد سمير، دراسة في النظام السياسي السويسري، مجلة أبحاث كلية التربية الأساسية، المجلد ١١، العدد ١.

تعليق عبر الفيس بوك