البلسم الشافي(19) (الجزء الثالث)

أ/ حمد الحــــوسني

أيها الكرماء، لا زلنا في هذه الحلقة نواصل ذكر ما جاء من كلام رائع في تفسير (التحرير والتنوير؛ المعروف بتفسير ابن عاشور) لمحمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي حول قول الله - تبارك وتعالى-: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ، وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ».

أيها الأعزاء، أرى أن نذكر بعض ما جاء في نهاية الحلقة الماضية؛ حتى يكون الكلام متصلا، والمعنى مكتملا.

يقول: [ومعنى كونه إثما أنه: إما أن ينشأ على ذلك الظن عمل أو مجرد اعتقاد، فإن كان قد ينشأ عليه عمل من قول أو فعل كالاغتياب والتجسس وغير ذلك فليقدر الظان أن ظنه كاذب، ثم لينظر بعد في عمله الذي بناه عليه؛ فيجده قد عامل به من لا يستحق تلك المعاملة؛ من اتهامه بالباطل؛ فيأثم مما طوى عليه قلبه لأخيه المسلم، وقد قال العلماء: إن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز.

وإن لم ينشأ عليه إلا مجرد اعتقاد دون عمل فليقدر أن ظنه كان مخطئا؛ يجد نفسه قد اعتقد في أحد ما ليس به، فإن كان اعتقادا في صفات الله فقد افترى على الله، وإن كان اعتقادا في أحوال الناس فقد خسر الانتفاع بمن ظنه ضارا، أو الاهتداء بمن ظنه ضالا، أو تحصيل العلم ممن ظنه جاهلا ونحو ذلك.

ووراء ذلك فالظن الباطل إذا تكررت ملاحظته ومعاودة جولانه في النفس قد يصير علما راسخا في النفس؛ فتترتب عليه الآثار بسهولة؛ فتصادف من هو حقيق بضدها كما تقدم في قوله -تعالى-: (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) "الحجرات : من الآية6".

والاجتناب: افتعال من جنبه وأجنبه، إذا أبعده، أي جعله جانبا آخر، وفعله يعدى إلى مفعولين، يقال: جنبه الشر، قال -تعالى-: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) "إبراهيم : من الآية 35". ومطاوعه: اجتنب، أي ابتعد، ولم يسمع له فعل أمر إلا بصيغة الافتعال.

ومعنى الأمر باجتناب كثير من الظن الأمر بتعاطي وسائل اجتنابه؛ فإن الظن يحصل في خاطر الإنسان اضطرارا عن غير اختيار، فلا يعقل التكليف باجتنابه؛ وإنما يراد الأمر بالتثبت فيه، وتمحيصه، والتشكك في صدقه إلى أن يتبين موجبه بدون تردد أو برجحان، أو يتبين كذبه فتكذب نفسك فيما حدثتك. وهذا التحذير يراد منه مقاومة الظنون السيئة بما هو معيارها من الأمارات الصحيحة. وفي الحديث: "إذا ظننتم فلا تحققوا".

على أن الظن الحسن الذي لا مستند له غير محمود؛ لأنه قد يوقع فيما لا يجد ضره من اغترار في محل الحذر، ومن اقتداء بمن ليس أهلا للتأسي. وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأم عطية حين مات في بيتها عثمان بن مظعون وقال: رحمة الله عليك أبا السايب؛ فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، وما يدريك أن الله أكرمه؟ فقالت: يا رسول الله ومن يكرمه الله؟ فقال: "أما هو فقد جاءه اليقين وإني أرجو له الخير، وإني والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي". فقالت أم عطية: والله لا أزكي بعده أحدًا.

وقد علم من قوله: (كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ) وتبيينه بأن بعض الظن إثم أن بعضا من الظن ليس إثما، وأنا لم نؤمر باجتناب الظن الذي ليس بإثم]. ولكلامه تتمة نذكرها فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

* أمين الصندوق بالجمعية العمانية للعناية بالقرآن الكريم (قيد التأسيس)

تعليق عبر الفيس بوك