الدولة الإنمائيَّة الفاعلة

د. سَيْف المعمري

في ظلِّ المنعطفات السياسية والاقتصادية التي تمرُّ بها كثير من دول العالم اليوم بصفة عامة، والدول العربية بصفة خاصة؛ حيث وصلتْ التنمية إلى أُفق مسدود أو أنها تُواجَه بعقبات حادة تتطلَّب كثيرًا من الإصلاحات العميقة حتى تيسر الظروف الملائمة لنموها وحركتها بحرية، ولأنَّ الدولة في البلدان العربية لا تزال تُمسك بخيوط التنمية، ولا تزال ترسم مساراتها، وتحدِّد وتيرتها ومُتطلباتها، وهي التي بيدها الحقنة التي يُمكن أن تستخدم في الحالات الطارئة لضخ بعض الحيوية في أوردة التنمية لتنشيطها؛ وبالتالي فإنَّ أيَّ حالة وَهَن تمرُّ بها التنمية، فإنَّ ذلك يعني بطريقة غير مباشرة حالة وَهَن تمرُّ بها الدولة في رؤيتها وسياساتها ومؤسساتها، وبمعنى آخر يعني ذلك أنَّ الدولة تُواجه صعوبات في التحوُّل إلى دولة إنمائية فاعلة، فما المقصود بهذا المصطلح؟ وهل يقدِّم مُؤشرات يُمكن أن تستخدمها أي دولة لتقييم نفسها من أجل السعي إلى تحقيق الفاعلية التنموية؟

... إنَّ مَعْنى التنمية ربما لا يختلف عليه اليوم اثنان؛ فهو يحمل دلالة نهضوية كيفية وليست كمية؛ حيث يكون الهدف هو تغيير في المجتمع لتحقيق رفاه المواطنين بمختلف أجيالهم، وتوسيع خياراتهم في مجالات التعليم والصحة والدخل، وتمكينهم من الحريات والفرص المتعددة التي تضمن له المشاركة الفاعلة في التشريع والرقابة التي تضمن لهم مستوى المعيشة الأفضل مقارنة بغيرهم؛ وبالتالي لا يُمكن أن تسمَّى التنمية تنمية ما لم تحقق ذلك، وأي فوارق بين المجتمعات في تحقيق ذلك الهدف يعود إلى وجود دولة مبادرة يطلق عليها مصطلح "الدولة الإنمائية" مما يُشير إلى وجود دولة أخرى "غير إنمائية"، فما الفارق بين الاثنين؟

وحتى تصبح الدولة دولة "إنمائية"، فلابد أن تتمتَّع بمجموعة من الصفات؛ ومنها: وجود نخبة غير سياسية تتَّخذ من التنمية الاقتصادية السريعة هدفاً رئيسياً لها. وعلاوة على ذلك، فلابد أن تقوم الدولة بمنح أجهزتها الإدارية النفوذ والسلطة لتخطيط السياسات وتنفيذها؛ شريطة أن تقود إلى تحقيق ارتفاع في معدلات النمو وتحسن في مستويات المعيشة للمواطنين، كما أنَّ الأمر يتطلَّب وجود إستراتيجية إنمائية تكون موضوع إجماع والتزام؛ لأن مُشاركة المواطنين وإحساسهم بأن لهم صوتا يُسمع ورأيا يُؤخذ به في عملية صنع القرار، ودورا فاعلا في وضع الخطط يعتبر عنصرا فاعلا في تحقيق التنمية المستدامة على المدى الطويل؛ وبالتالي فإنَّ الدولة الإنمائية هي التي تقوم على تعزيز التنمية الاقتصادية من خلال المعاملة التفضيلية الواضحة لبعض القطاعات، وهي التي تتمتع بوجود كفاءات في القيادة، ووضع المؤسسات العامة القوية في صلب الإستراتيجيات الإنمائية، ووضوح الأهداف الاجتماعية والاقتصادية، واكتساب الحكومة للثقة من خلال مؤشرات الأداء التنموية.

... إنَّ الدراسات التي تعود للأعوام الأخيرة تشير إلى أنَّ العديد من البلدان النامية بدأت تحقق أداء اقتصاديا مميزا، وظهر أنَّ سببَ ذلك هو تحولها من دولة تقليدية تكتفي بتصحيح إخفاقات السوق، إلى دولة إنمائية تقوم بإطلاق عملية التحول في حياة المواطنين، علاوة على دعم اكتفائها بأنْ تكون دولة صديقة للسوق فحسب، بل إنَّها حاولت جاهدة أن تكون صديقة للتنمية، أي أنها انتقلت من التركيز على النمو إلى التركيز على التنمية البشرية الحقيقية، ويتطلب تحقيق ذلك تصحيح ومراجعة لأولويات السياسات الحكومية، وهو من وجهة نظر الخبراء يفوق في أهميته تصحيح الأسعار؛ ومن أجل أن يكون هذا التصحيح مفيدا وبنَّاء؛ فلابد أن يُدير عمليات وضع السياسات أشخاص مُلتزمون يعملون في إطار هياكل حكومية متجاوبة وفعالة، إن لم تكن الهياكل الحكومية كذلك فإنَّ ذلك مؤشر على صعوبة تطبيق سياسات ورؤى طويلة الأمد؛ حيث تصدم دائما بهذا الانفصال بين المؤسسات المعنية بتنفيذها، وتصدم هذه الرؤى عادة بمقاومة ما يُسمَّى عادة بالحرس القديم. وهنا؛ تكون الدولة بين خيارين إما أن تكون عاجزة عن تحقيق التنمية أو أنها تتعامل بجدية مع مقاومة التغيير.

... إنَّ دولة مثل الصين لم تنجح في تحقيق تغيُّرات جذرية معقَّدة منذ أواخر السبعينيات؛ تمثلت في التحوُّل من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق، ومن الريفي إلى الحضري، ومن الزراعة إلى الصناعة التحويلية والخدمات، ومن أنشطة اقتصادية غير نظامية إلى أنشطة اقتصادية نظامية، ومن مجموعة مجزَّأة من الاقتصادات القروية إلى اقتصاد أكثر تكاملا إلا من خلال تحقيق شروط الدولة الإنمائية الفاعلة؛ ومن ضمنها: الانطلاق من رؤية طويلة الأمد لبناء المؤسسات والقدرات اللازمة، عمدتْ أيضا -بجرأة- إلى الاستعاضة عن الحرس القديم الذي كان يتوقع أن يقاوم التغيير بقيادات كان لها ثلاث خصائص؛ هي: أنها أصغر سناً، وأكثر انفتاحاً، وأفضل تعليمياً؛ وبالتالي فإنَّ هذا أحد الدروس المهمة للدول التي لا تزال تضع إستراتيجيات ولكنها تجد نفسها لا تحقق النتائج المتوقعة، وتسأل: لماذا لم نصل إلى النسبة المتوقعة في نهاية الإستراتيجية؟ قد تكون الإجابة واضحة ولكن هناك دائما عدم رغبة في طرحها بشفافية.

... إنَّ طرح هذا الموضوع يدفعنا إلى طرح سؤال عميق: هل نحن دولة إنمائية فاعلة، أم أننا دولة نامية تحقق نموًّا؟ إنَّ هذا السؤال يُطرح في مختلف النقاشات في السنوات الأخيرة، وربما لم نتفق فيه على إجابة واحدة تتيح تحقيق انطلاقة أخرى، والدليل على ذلك هو الانفعال الذي حدث في مناقشة مجلس الشورى لمعالي وزير التجارة والصناعة خلال الفترة الأخيرة؛ حيث أجاب بأنَّنا نحقق نموًّا في كل القطاعات، ولكن أتوقع أن سعادة العضو الذي طرح الملاحظات كان يرمي إلى الفاعلية الإنمائية التي يركز عليها هذا المقال، وهناك عبارة غير مباشرة استُخدمت من قبل أحد أعضاء الحكومة خلال الفترة الماضية والتي رُبَّما تعطي مؤشرًا عن واقع الحال؛ حين قال إنَّ "الحكومة مُترهلة"، وهو لفظ يحمل دلالة سلبية جدًّا على تحقيق التنمية الفاعلة، وأيًّا كانت المؤشرات، فيبدو أننا ونحن على أبواب مرحلة جديدة -سواء إن كان الأمر يتعلق بالخطة الخمسية، أو انتخابات مجلس شورى، أو التغيرات السياسية المتوقعة، أو انتظار بواكير ظهور النظام التعليمي الجديد...وغيرها من الأبواب التي سندخلها قريبا- لابد أن نصل إلى وفاق حول إجابة عن السؤال أعلاه؛ فالإجابة الشفافة التي يتقبلها الجميع، تعني أننا نعرف أين نحن الآن، وكيف نصل إلى ما نريد!

saifn@squ.edu.om

تعليق عبر الفيس بوك