قطار النظرة المتفائلة لن يرحم من يرفض ركوبه

عبيدلي العبيدلي

للوهلة الأولى يحق لأي متشائم يتابع المشهد العربي أن يمعن في تشاؤمه، فمن يراقب تتابع الأحداث في المنطقة العربية، يكتشف، انطلاقا من نزعته التشاؤمية، وانسجاماً معها، أن مسيرة السنوات، إن لم نقل العقود، الأربعة الأخيرة التي عرفتها البلاد العربية، لا يمكنها أن تولد ما هو مخالف لنظرة مفرطة في تشاؤمها، تسندها في ذلك مجموعة التطورات التي عرفتها الدول العربية خلال الفترة الأخيرة من تطورها التاريخي.

فعلى المستوى السياسي المحض يعاني الوضع العربي من ثلاثة تراجعات في حضوره على المنصة الشرق أوسطية يمكنها تفصيلها في النقاط التالية:

1. تراجع ملموس في ثقل البلاد العربية في صنع القرارات الدولية، بل وحتى الإقليمية عندما يتعلق الأمر بمنطقة الشرق الأوسط، رغم كونهم، أي العرب، يحتلون الرقعة الجغرافية الأكثر اتساعا، والكتلة الاقتصادية الأشد غنى، والتكوين السياسي الأقدم في علاقاته مع العالم. فأمام جميع المشروعات التي رسمت لهذه المنطقة الحيوية، كان الحضور العربي فيها مهمشا، ووصل في بعض الحالات، كما هو الحال بالنسبة لإعادة رسم خارطة الشرق الأوسط الجديدة، إلى مستوى المتلقي، أو الصفر في معادلة المشاركة مقارنة مع دول إقليمية أخرى، مثل إيران وتركيا، كي لا نقول إسرائيل.

2. اختراق أجنبي ملموس، وانتهاكات صارخة متلاحقة وممنهجة، لا تمس السيادة الوطنية فحسب، بل تصل إلى المشاركة المباشرة في الحكم. وإن كانت إسرائيل تحرص على أن تبقي أصابعها خفية في مثل تلك الممارسات، فإن إيران لم تعد تكلف نفسها مشقة تمويه حضورها المباشر في رسم السياسة الداخلية للعراق، ولا تتنصل من علاقاتها الفوقية المباشرة مع نظام بشار الأسد.

3. غياب أي مشروع قومي عربي، حتى في حدوده التنسيقية الدنيا، مقابل المشروعات المصيرية الموضوعة على طاولة العلاقات الدولية بشأن مستقبل المنطقة العربية، في إطار مشروعات الشرق الأوسط الجديد. وكثيرا ما نجد هذه الدولة العربية أو تلك تسير في دبر مشروع، لا يخدم المصلحة العربية الكبرى، وعلى نحو استراتيجي، تبنته إحدى الدول التي بين أيديها مشروعات وبدائل مشروعات شبه متكاملة. والحديث هنا لا يتناول دولا عظمى مثل أمريكا وروسيا، بل دولا مثل تركيا وإيران.

يتناغم هذا التراجع بشكل سلبي، مع المشكلات الاقتصادية التي بدأت تتربص بمستقبل الاقتصاد العربي، وفي المقدمة منها التراجع الكبير، وغير المتوقع في أسعار النفط، والذي بدأت طلائع انعكاساته تترك بصماتها على خطط التنمية، وخاصة في البلدان التي تعتمد بشكل رئيس على النفط في تمويل تلك الخطط. هذا إلى جانب تهاوي اقتصادات الدول العربية الكبرى مثل مصر بسبب الأحداث التي عصفت بها، وجراء استمرار إسرائيل في تنفيذ مشروعاتها الاستنزافية العسكرية والسياسية، بشكل غير مباشر في سيناء، والمناطق المصرية المتاخمة لها، وتنضم لها العراق التي باتت مهددة بالتشظي إلى مجموعة من الكيانات المتشرذمة الفقيرة، المنهكة اقتصاديا بفضل الحروب المتتابعة التي خاضتها، وما تزال تخوضها منذ ما يزيد على ثلاثة قرون، عندما أقدم صدام على اعلان الحرب على إيران.

وفي السياق الاقتصادي، ينبغي ألا ننسى أن تداعيات تراجع أسعار لن تقف عند حدود البلدان العربية المنتجة له، بل سيتعداها كي يصل إلى الدول العربية الأخرى التي تتلقى مساعدات وتمويلات من شقيقاتها الدول العربية النفطية.

ويتكامل ذلك مع أزمة اجتماعية حادة، تتمظهر في التمزق الاجتماعي على صعيد كل قطر عربي، جراء تفشي الأوبئة الطائفية التي غذتها الدول الإقليمية المتاخمة للبدان العربية كس يتسنى لها إضعاف الطرف العربي في أية معادلة إقليمية محتملة. وليس ما شاهدناه في العراق، ما بدأنا نراه في اليمن، إلى أمثلة حية صارخة يدلل على عمق هذه الأزمة الاجتماعية، وينذر باتساع نطاقها كي تشمل دولا عربية أخرى على المستوى الأفقي، وكي تأخذ أشكالا أخرى على صعيد كل دولة على حدة.

هذه الحالة العربية المتردية التي تبرر لمن يريد أن ينطلق من نزعة تشاؤمية، لا تمنع مالكي النظرة التفاؤلية أن يتمسكوا بنظرتهم تلك، فتحت طيات هذا المشهد المتراجع، تكمن بذور ثورة عربية من المتوقع لها أن تكون مختلفة تماما عما عهدناه من ثورات سابقة عصفت بالمنطقة العربية منذ خمسينات القرن الماضي. هذه الثورة لن تكون شعاراتها سياسية سطحية، كتلك التي حملتها ثورات القرن الماضي، ولا فضفاضة وواسعة بحيث يستحيل تحقيقها كالصبغة التي دهنت شعارات المرحلة السابقة أيضا.

المتوقع لهذه الثورة التي تحملها في ثناياها تلك النظرة المتفائلة أن تكون ذات منطلقات راسخة، مستمدة من قراءات علمية صحيحة للواقع العربي، تراعي فيه تكوينه الاثني، وتأخذ في عين الاعتبار مكوناته الثقافية التاريخية، وتحترم إلى أبعد الحدود مقوماته الدينية وإرثه الحضاري.

ربما يستغرق ذلك وقتا أطول مما يتوقعه، أو يريده المتسرعون الغارقون في تشاؤمهم، لكنها بحاجة إلى أن تستغرق الوقت الذي تتطلبه مثل هذه المسؤولية المتفائلة، التي ستدرس أخطاء الماضي، وتتحاشى، قدر الإمكان، ارتكابها مرة أخرى، وتستفيد من ظروف الحاضر، وتعمل على تجييرها، وعلى أوسع نطاق، لصالح مشروعها التغييري القادم لا محالة.

الأكثر أهمية هنا، هو ان تنجح هذه القوى ذات النظرة المتفائلة، في غرس أفكارها، وزرع مشروعاتها، كي يتسنى لها تطويق أعدائها، ممن ستهدد برامج تلك القوى مناطق نفوذهم السياسية والاجتماعية، قبل مصالحهم الاقتصادية. قطار مشروعات النظرة المتفائلة قادم، ولن يرحم من يرفض ركوبه.

تعليق عبر الفيس بوك