خصخصة التعليم الجامعي ومحاذير هدم الدولة

د . صالح بن هاشل المسكري

قديمًا كان طلاب العلم في عمان يدرسون ويتعلمون في الجوامع والمساجد وتحت ظلال الأشجار، ورغمَ الاضطراباتِ السياسية وعدم توفر الوسائل والخدمات وظروف الحياة الصعبة ظَهرَ من جوامعها ومساجدها ومدارس ظلال الأشجار علماء أفذاذ وفقهاء وشعراء ومؤرخين ونُسّاب، لا تزال مآثرهم خالدة تبعثُ في نفوسِ أبناءِ عَصرِ النَّهضة العزّةَ والفخرَ والانتماء لهذا الوطن العزيز، نذكر منهم على سبيل المثال أبو بكر الكندي صاحب المصنّف الذي يقعُ في 95 جزءاً، وجميّل بن خميس السعدي مؤلف قاموس الشريعة في 90 جزءاً، ومحمد بن إبراهيم الكندي الذي ألف بيان الشرع في 72 جزءاً وسلمة بن مُسلم العوتبي وكتاب الضِّياء في 26 جزءاً وأبو الحسن البسيوي صاحب كتاب الجامع، وأبو سَعيد الكدمي صاحب المُعتبر والإمام الربيع بن حبيب صاحب المسند الشهير وغيرهم الكثير من العلماء والزهاد الذي تركوا أثرًا حميداً وإرثاً علميًا وثقافيًا وحضاريا لأهل عمان، ولا تزال شموس تلك المرحلة الصعبة تضيء جنبات حياتنا الحاضرة بشخصيات تنويرية عصامية منها فضيلة االمربّي الفقيه حمود بن حميد الصوافي "وهو كفيف البصر واسع الإدراك والبصيرة" وسماحة العلامة المفكر أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة حفظهما الله، وشخصيات أخرى رائعة اختفت عن المشهد العماني بالتدريج وانتقلت إلى بارئها عزّ وجلّ بعد أن جدّت واجتهدت وأجادت وتركت أعمالاً لا تنقطع وعلماً يُنتفع به، رحمهم الله أجمعين.

وفي حياتنا الحاضرة والربط بين المرحلتين هنا ليس للمقارنة إنما لأجل تقريب الصورة واستنهاض همم الشباب الذين توزعتهم دروب الحياة بمظاهرها ومطامحها المطلوقة في مضامير السعي واللهث بلا سرج ولا عنان، توجد في حياتنا الآن الآف المدارس وكثير من الجامعات والمعاهد ودور النشر والبعثات حول العالم ووسائل المساعدة الإلكترونية وغير ذلك، مع وجود الدعم المادي والتسهيلات المختلفة من الدولة والمجتمع، ولكننا كما يقول المثل نسمع جعجعة ولا نرى طحيناً، وحتى إن وجد الطحين فهو منفيٌّ في آخر الذاكرة لا يجد من يلتقطه ويسخره للمنفعة العامة، فهناك أعداد غفيرة من الخريجين في صنوف العلم والمعرفة ومختلف الدرجات العلمية رضوا بأن يدوروا في دولاب الحياة ويختفوا مع ضجيجها فلا نسمع عنهم ولا عن شهاداتهم شيئاً، قد يكون السبب في هذا بعض المتعلمين وانكساراتهم المتكررة، لكن السبب الأهم في رأيي هو وجود الأنظمة الإدارية الإقصائية التي تتحكم في القرار الإداري دون ضوابط، وهناك آلاف البحوث والدراسات والرسائل العلمية لا يوجد من يهتم بها بل لا توجد جهة في الدولة تُعنى بجمعها وتوثيقها وتصنيفها لأجل المصلحة العامة، أو محاولة بناء قاعدة بيانات وطنية لما يسمى برأس المال الفكري المعرفي الذي توليه الدول والحكومات ذات المشاريع التنموية الحقيقية والخطط الطموحة فائق عنايتها وتقديرها، والحكومات في الدول النامية أحوج ما تكون لرأس المال الفكري المعرفي من مؤسسات القطاع الخاص التي تبدو في بلادنا أكثر مهنية وجدية.

ثم إنّ التحول نحو الخصخصة عمومًا وفي مجال التعليم العالي على وجه الخصوص أمر تحفه كثير من محاذير هدم الدولة والقطاع العام عندما تتنازل الدولة عن سيادتها وإدارتها لقطاعات مهمة تمس الحقوق المباشرة للمواطنين تتنازل عنها للقطاع الخاص، ومخاوف من هدر المال العام وتوجيهه لمصلحة نفس الأشخاص الذين سبق لهم الاستفادة من مناصبهم في الحكومة وبالتالي تعيد الدولة تدوير وإنتاج نفسها فيزداد الغني غنىً ويزداد الفقير فقرا والتصاقاً بمشاكله وحاجاته، في ظل عدم وجود تكافؤ للفرص وعدم وجود قوانين تواكب هذا التحول السريع للخصخصة، فبعد أن تمّ تحويل عدد من الشركات الحكومية ونقل ملكيتها للقطاع الخاص كشركة الأسماك العمانية وهيئة المنتجات الزراعية وقطاعات الكهرباء والاتصالات والبريد، أصبح المواطن في مواجهة مباشرة مع هذه الشركات وباتت تتلاعب في تقديم الخدمات وتتحكم في أسعار المنتجات والخدمات، وأصبح حائرًا أمام هذا التحول هل ينتمي للنظام الاشتراكي أم للنظام الرأسمالي أم لنظام مختلط.

ثم تصل الخصخصة لحق من أهم الحقوق التي يكفلها القانون حق التعليم وتتنازل الدولة عن الجانب المهم منه وهو التعليم العالي لمصلحة القطاع الخاص، وتقدم لأجل ذلك أكثر من مائة مليون ريال عماني كمنح مباشرة لدعم أنشطة الجامعات الخاصة بواقع 17 مليون ريال لكل جامعة من الجامعات الست، حتى الجامعة التي لم تر النور بعد وهي جامعة مسقط نالت حظها من العطاء وخُصص لها نفس المبلغ في انتظار إشهارها، دون التفكير في تسجيل تلك المبالغ كحصة للحكومة في هذه الجامعات يمكن أن تستعيدها للمال العام للدولة في المستقبل " تجدر الإشارة إلى أن الكليات الخاصة وهي 12 كلية لا تشملها المنحة المالية مع أنها تنطلق لذات الأهداف والخدمات".

وقدمت الحكومة لكل جامعة خاصة قطعة أرض بحجم مليون وثمانمائة ألف متر مربع لكل جامعة وفي مناطق حيوية من المحافظات، يتم تسجل ملكياتها في النهاية باسم الجامعات وإن بدأت بطريق الانتفاع وأيضاً لم تفكر الحكومة في تأجير هذه الأراضي الشاسعة للجامعات كاستثمار يمكن التصرف به وبيع هذا الأراضي للجامعات في المستقبل إذا ما تحسنت ظروفها، مع تقديم آلاف البعثات الدراسية الداخلية لطلبة التعليم العالي وللموظفين في أجهزة الدولة، وإعفاء هذه الجامعات من الرسوم الإدارية وتسهيلات أخرى كثيرة ما أنزل الله بها من سلطان، كل هذه الحزم الواسعة من المساعدات من أجل دعم المسيرة التعليمية في مرحلة الدراسات العليا، ولا تزال الجامعات الخاصة تشكو من ضيق الحال، ونشكو نحن في المقابل من تراجع مخيف لمستوى التعليم العالي في عمان وفق المعايير العالمية.

هذه السياسة تحتاج الى إعادة نظر من قبل الجهات المعنية في الدولة وتستدعي تقييما واسعاً ومراجعة شاملة للرقي بالمستوى من ناحية وللحفاظ على الحقوق العامة للدولة من ناحية أخرى، فهذا تجسيد مبالغ فيه للدولة الرعوية التي تقدم كافة الإمكانيات لشريحة من المستثمرين ثم يقوم هؤلاء بتقديم خدماتهم للمجتمع بأسلوب تجاري بحت لا يستطيع المواطن إلا أن يرضخ له، حتى وإن شعر بالغُبن وهو يرى أنّ الطالب العماني أو ما يُسمى بقطب الرحى في التنمية البشرية الوطنية يتساوى في الرسوم الدراسية مع الطالب الأجنبي القادم من أقطار العالم، وكأن الدعم هنا يُقصد به النهوض بالمؤسسة التعليمية وإثراء ملاكها بلا سبب، وليس النهوض بقطاع التعليم والارتقاء بالمواطن وبالحقوق المقررة له.

وإذا ما نظرنا إلى الطلبة الدارسين في الجامعات الخاصة نجد أن أكثر من 85% من الدارسين هم من الإناث، أي بمعنى آخر أن تعليم الذكور لا يتجاوز في المتوسط 15% والسبب في هذا الحكومة مدفوعة بتفوق الإناث في التعليم العام دون دراسة للواقع أو إدارة تستشرف المستقبل للمخرجات، والمجتمع الغارق في العاطفة "دمعتان خفيفتان من البنات كفيلتان بإذابة الصخر فما بالك بقلب الوالدين" خاصة إذا ما أيّدن البنات طلباتهن بمعلومات قاطعة بأنّ هناك أكثر من عشرة آلاف بعثة كاملة تقدمها وزارة التعليم العالي للجامعات الخاصة، ودعم مالي لأبناء أسر الضمان الاجتماعي وذوي الدخل المحدود يقدر بأكثر من 350 ألف ريال في العام مع تخصيص 500 بعثة دراسية سنوية فقط للبنات أجمل الكائنات، أما الولد فهو كما يُقال "سند وما يُعيبه غير جيبه" لذلك يُدفع بالأبناء للعمل في سن مبكرة وغالباً دون تأهيل كافٍ في الصحراء وفي الشركات البسيطة التي لا تتوفر لها إمكانيات التأهيل والتطوير، عوضاً عن تردد الكثير منهم على دول الجوار للبحث عن فرصة عمل وإن كانت غير تخصصية، وهذا في الحقيقة خطأ إستراتيجي سيلقي بظلاله على مستقبل التنمية الوطنية عمومًا وعلى الحياة الاجتماعية بشكل خاص يجب أن نحذر منه وحلّه ولو تطلب الأمر قراراً سياسياً نافذًا، فالوطن يحتاج لإسهام أمهات المستقبل لكنه يحتاج إلى سواعد الرجال وطاقاتهم بشكل أكبر.

Sh-almaskry5@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك