ما جنيناه من "التعاون" وما جناه علينا؟

علي بن مسعود المعشني

يجب أن نتساءل -اليوم- بوصفنا عُمانيين أولًا وخليجيين ثانيًا -وأكثر من أي وقت مضى، وبكل شفافية وصدق مع الذات والآخر- عن ماذا جنينا من تجربة مجلس التعاون؟ وما الذي جنته علينا هذه التجربة في المقابل كنُظم وشعوب بعد مضي أكثر من ثلاثة عقود عليها؟ كأناس عقلاء ونُظم تقود أوطانا وتقرر مصائرها، وشعوب بلغ بها النضج والطموح وتراكم التجربة ومعرفة الممكنات حدًا يُمكنها من الحديث والمشاركة بالقدر"المناسب" لترشيد التجربة ونقدها بإيجابية.

فميثاق تأسيس مجلس التعاون عام 1981م -وكما هو مُعلن ومعلوم- ينصُّ على التعاون في جميع المجالات بين الدول الأعضاء وصولًا للتكامل فالإتحاد. وهذا ما حدا بشعوب المنطقة إلى مباركة هذا التكتل السياسي الوليد، والرفع من سقف الآمال، وجعل المجلس بمثابة طوق نجاة للمنطقة والأمة في زمن التشرذم والوهن والشتات، وأنموذجًا حيًّا مرتقبًا يبرهن قدرة العرب وأحقيتهم في رسم واقعهم ومستقبلهم بما يليق بقدرهم وممكناتهم فوق الأرض وتحت الشمس بلا ضرر أو ضرار، وبلا إفراط أو تفريط.

جميعنا يعلم أن مجلس التعاون وُلد في ظرف أزمة اسمها الثورة الإسلامية في إيران ومن رحمها، وسِيقتْ لنا "مزاعم" أن الثورة الوليدة خطر ماحق على كيانات المنطقة وجغرافيتها ومصالحها وتاريخها ومورثاتها. ومن هنا، كان الترحيب الشعبي حارًا مُقابل خطر الزوال والتربص والريبة من الآخر القادم بكل "مخاطره" و"أطماعه".

مرَّت الأعوام تلو الأعوام، والمجلس محلك سر؛ حيث لا تعاون، ولا تعزيز لقوة تحمي المكتسبات وتعزز التنمية وتردع المخاطر التي يسوقها الخطابان السياسي والإعلامي الخليجي في كل حين، ولا توجه رسمي حقيقي نحو ترسيخ المواطنة الخليجية وتقريب شعوب المنطقة من بعضها بمعايير التاريخ والجغرافيا والمصالح والمصير المشترك؛ فقد كشف المجلس -ومن واقع التجربة- أنه مجلس وظيفي لخدمة أطراف خارجية، وخوض حروب وهمية بالوكالة، وخلق أعداء وخصوم وهميين كذلك؛ لتصدير المخاطر وترحيل الممكنات والإصلاحات الداخلية وتأجيلها بمزاعم مواجهة المخاطر والأطماع السرابية الخارجية القادمة من الضفة الأخرى للخليج؛ الأمر الذي أوقع المجلس بشقه الرسمي في قطيعة شعبية وحرج سياسي وأخلاقي كبيرين، واتسعت تلك الفجوة مع الأيام اتساعًا كبيرًا.

هنا.. يُمكننا القول بتوفر الدليل المادي على السقوط الأخلاقي الأول لمنظومة مجلس التعاون، بزعمها وجود مخاطر وأطماع. وفي المقابل، عدم وجود أية خطوات أو إجراءات مضادة على الأرض لردع تلك الأطماع والمخاطر المزعومة والمحدقة بالمنطقة. الأمر الثاني هو تصنيف مجلس التعاون للخصوم؛ فبينما "تتحالف" دول مجلس التعاون "إستراتيجيًا" مع خصوم الأمة التاريخيين. وعلى رأسهم أمريكا وبريطانيا وفرنسا، "تختلق" العداء المجاني مع شركاء الجغرافيا والتاريخ والمصير بمبررات برهنت الأيام هشاشتها وبوارها.

الحقيقة المرة الثانية لتعثر تجربة التعاون الخليجي، تتمثل في وجود حرب باردة حقيقية محتدمة بين مكوناته السياسية، والتي انتقلت بالتداعي إلى القواعد وهم الشعوب بصورة أو بأخرى؛ فهذه الحرب المؤجَّلة وغير المُعلنة تحتدم بضراوة على تخوم المذهبية والمصالح والنفوذ السياسي والاقتصادي والتوسع الجغرافي، ومن يكون كبيرًا ويبقى وغنيًا ويبقى... مقابل صغير دائم وفقير دائم كذلك. وتطل برأسها بجلاء شديد عند تفجُّر أصغر أزمة خلافية بين أي من أعضاء المجلس وآخر، على منصب أو مقر أو خارطة أو موقع حدودي أو موقف سياسي مغاير.

نعم.. كان من الممكن لمجلس التعاون أن يظهر لشعوب المنطقة والعالم بمظهر الكيان السياسي العربي الناجح لنموذج التعاون، وأن يعزز مشاعر المودة والرحمة والوشائج القائمة بين شعوب المنطقة منذ الأزل وقبل قيامه والمتمثلة في حق التنقل والإقامة والعمل والعلاج، والبناء عليها بإيجابية وتوسيعها بما يليق بحكم الزمن وبعمق تلك المشاعر، وبحجم المصالح والمخاطر المحدقة بالمنطقة لثرواتها وموقعها الإستراتيجي المُغريين. وكان من الممكن لمجلس التعاون أن يوازن بين "تحالفاته" ومصالحه الحيوية بقليل من الإرادة السياسية والعقلانية، ويتجنب سياسات عقلية البُعد الواحد، حتى لا يُظهر دَوْره الوظيفي "النجيب" في خدمة أعداء الأمة التاريخيين، ويتجلَّى في كل يوم الدور التابع لهم؛ فيسقط أخلاقيًّا في عيون شعوبه وأشقائه وأصدقائه. ولكنَّ البعض فضَّل سياسة الهروب إلى الأمام وراقتْ له، وتسلَّح بكل أدوات التبريرية السياسية من أجل الوصول إلى أهدافه المُبطنة وترسيخها وفرضها على الآخرين.

ليس عَيْبًا في السياسة -أو حرامًا- أن تسعى دولة ما لحماية مصالحها وتوفير الاستقرار لشعبها وحماية أمنها، بما تراه مناسبًا ومتاحًا لذلك؛ فليس في السياسة عيب وحرام، بل قواعد وأصول متعارف عليها، ولكنَّ العيب كل العيب أن يجيِّش البعض الآخرين بوعي منه، ويُوظفهم لخدمة مصالحه وبرامجه الخفية بزعم التعاون أو الاتحاد، والواقع ينطق بعكس ذلك تمامًا.

لا نُبالغ إذا قلنا إنَّ العدوان على اليمن اليوم، قد يكون المسمار الأخير في نعش مجلس التعاون الخليجي، بعد المسامير الماضية في فصول الربيع المشؤوم والتي انغمست فيه أطراف خليجية إلى حدِّ النخاع وأحرقت كل مراكب نجاتها بنجابة وتفان. فقد وضع البعض نفسه في موقع مثالي للابتزاز القضائي الدولي، والمالي والسياسي، ورفع درجة سخط الآخرين عليه، ورغبة الثأر والانتقام إلى سقفه الأعلى، وهذه الأمور جميعها لا تسقط بالتقادم، ولا تُجبر بالمال والودائع والاستثمارات والقُبل الحارة أو الباردة؛ فالسياسة ليست قمارا، بل معادلات رياضية.

فالظَّرف التاريخي الذي وُلد من رحمه مجلس التعاون -وهو الثورة الإيرانية- أصبح اليوم رقمًا صعبًا وشريكًا فاعلاً لكل القوى الحية والفاعلة في المنطقة، والنظام السوري أصبح مُرحبًا به وشريكًا في مستقبل سوريا الغد، و"الحليف" التركي عينه على الأموال الإيرانية المفرج عنها، وعينه الأخرى على زعامة تيار الإخوان وإحيائه. ومن هنا، يُمكننا القول بأنَّ قواعد المصالح والاشتباك في المنطقة قد تغيَّرت بشكل كبير، بل وربما جذري، وهناك من أصبح على دكة الاحتياط إن لم يكن أحيل للتقاعد المبكر دون أن يشعر. ومن لم يستوعب هذه التغييرات، فعليه تحليل كلام الرئيس أوباما عن مشاكل دول الخليج الحقيقية بأنها إصلاحية وداخلية وليست خارجية (في توصيف بالغ الدقة لكيانات سياسية تُعاني بالفطرة والنشأة من جميع مظاهر الاستقرار القلق)، ودعوته لقمة خليجية أمريكية في مايو المقبل بمنتجع كامب ديفيد؛ ليشرح "بالكتالوج" -على ما يبدو- لمن استعصى عليهم فهم السياسة وتجاوزتهم الأحداث والحاجة معًا.

قبل الوداع: "هناك في المنطقة من يعاني حقيقة من "متلازمة" مزمنة اسمها إيران، يستحيل علاجها، "ومتلازمة" القوي والنافذ في المنطقة، ولديه الاستعداد التام للتضحية بأي شيء في سبيل بقاء وهجه وتأثيره وبريقه ودوام الحاجة إليه من قبل الكبار، وكأن سُنن التاريخ لا تسري عليه"!!.. وبالشكر تدوم النعم!

Ali95312606@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك