الوحدة الوطنية بين الانتهازية السياسية وبرنامج العمل الجاد

عبيدلي العبيدلي

مِنْ بَيْن القضايا التي أثارها الحراك العربي الذي انطلق إثر إشعال الشاب التونسي محمد بوالعزيز النار في جسده الناحل، مسألة "الوحدة الوطنية"؛ حيث وجد المواطن العربي نفسه أمام مطالبة الفرقاء المختلفين، والقوى المتصارعة كافة، ودون استثناء لأي منها بالدعوة لتحقيق ما أطلق عليه "الوحدة الوطنية". المفارقة المحزنة هنا أنه كلما أمعنت المكونات السياسية العربية رفعا لشعار "ضرورة تحقيق الوحدة الوطنية"، كلما رأينا المشهد الواقعي يخالف ذلك، وتأتي المحصلة المزيد من تمزيق نسيج المجتمع العربي، ليس على المستوى القومي الشامل، بل حتى على صعيد كل دولة عربية على حدة. لا ينفي ذلك استمرار عمل الأنشطة اليومية للدولة، فالمقصود هنا ذلك التآلف الاجتماعي الذي ينظم العلاقات داخل المجتمع الواحد كي يحقق ما أصبح متعارف عليه من قيم وسلوكيات الوحدة الوطنية.

الكاتب عزو محمد عبد القادر ناجي في مقالته المنشورة على شبكة "الويب"، والموسومة "مفهوم الوحدة الوطنية قديماً وحديثاً"، يستعرض -بشيء من التفصيل- تاريخَ تطور هذا المفهوم في الفضاء السياسي العربي، بدءا من اجتهادات أبو حامد الغزالي، الذي، كما ينقل ناجي عنه، يعتبر أن الوحدة الوطنية تتحقق "من خلال الحاكم (الإمام) ؛ لأنه هو أساس وحدة الأمة، وأنه محور اتفاق الإدارات المتناقضة، والشهوات المتباينة المتنافرة من خلال جمعه لها حول رأى واحد، بسبب مهابته وشدته وتأييد الأمة له من خلال تعاقد سياسي بينهم وبينه على شرط أن يقوم هذا التعاقد على الرضي لا على الإكراه، وهذا سيؤدى إلى القضاء على التشتت والتضامن في الجماعة من أجل السلطة، مرورا بميكافيلي الذي يتمسك بالربط الشرطي بين تحقق الوحدة الوطنية، و"ارتقاء الحاكم في الدولة إلى درجة القداسة؛ لأنه محور الوحدة الوطنية في الدولة، وإذعان المحكومين لهذا الحاكم وخشيته من ضرورات هذه الوحدة، لأن الأخذ بآرائهم سيؤدى إلى الفوضى والاضطراب، لأنهم لا يمكن أن يكونوا طيبين إلا إذا اضطروا لذلك"، وصولا عند جان جاك روسو الذي يكرس مفهوم الوحدة الوطنية من خلال "قيام عقد اجتماعي بين الشعب والنظام السياسي القائم، بحيث يتوحد الشعب في وحدة قومية مصيرية، وفى إطار من مسؤولية مشتركة يطيع فيها الفرد الحكومة، التي هي نظام اجتماعي ارتضاه عن طواعية واختيار، والربط بين السيادة في توحيد الشعب وقيمه، والتعبير عن إرادته المندمجة في الإدارة العامة... وتقترن هذه الوحدة بالديمقراطية من خلال حكومة ديمقراطية يستطيع الشعب في ظلها أن يجتمع، وأن يتمكن كل مواطن من التعرف على غيره من المواطنين". وبطبيعة الحال هناك تعريفات كثيرة غير ما أوردناه.

وحصيلة هذا التعريفات، وإذا ما حاول من يتابع شريط مسلسل دعوات الوحدة الوطنية على مسرح المشهد السياسي العربي، فسوف يكتشف أن هناك الكثير من المسببات التي تقف وراء تعثر غرس مفاهيم الوحدة الوطنية عميقا في ذهنية المواطن العربي، لعل أبسطها، لكن أكثرها أهمية هي غياب الاتفاق على تعريف واحد ينظم مفهوم الوحدة الوطنية في سلوك المواطن العربي قبل الحكم العربي.

فجميع الحقائق تصدمنا بحلول مفاهيم أخرى غير المواطن في سلوك المكونات السياسية النشطة في الساحة السياسية العربية. تتفاوت هذه المفاهيم بين الطائفية الدينية، والفئوية السياسية، والتشرذم القومي، والتعصب الديني. فهذه الانتماءات المتشظية، تنتصب في هياكل سلبية تحول دون الوصول، حتى إلى الحدود الدنيا من الأشكال البسيطة التي بوسعها أن تراكم كما معرفيا يقود إلى نبذ كل أشكال ذلك التشظي، وإحلال الوحدة الوطنية مكانها. أدى ذلك إلى اختطاف الانتهازية السياسية مفهوم الوحدة الوطنية من موقعه الصحيح كبرنامج عمل وطني جاد، يرتكز على قيم ومفاهيم المواطنة المعاصرة.

ومن هنا، فالخطوة الأولى الضرورية، والتي من الخطأ المساومة عليها نحو الوحدة الوطنية، في أي مجتمع عربي، سواء كانت تلك الخطوة على طريق الوحدة القومية العربية الشاملة، أو حتى على مسار الأضيق منها وهي المحصورة في الدولة العربية الواحدة، هي تكريس مفهوم المواطنة بقيمها المعاصرة التي من الخطأ الاختلاف على مكوناتها الرئيسية.

والمواطنة كما ترد في معظم الموسوعات الدولية والعربية هي "علاقة بين فرد ودولة كما يحدِّدها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من حقوق يتمتع بها وواجبات يلتزم بها، انطلاقاً من انتمائه إلى الوطن الذي يفرض عليه ذلك، (وعليه أضحت) المواطنة فكرة وتصوراً تنبثق منها الحقوق والواجبات وتتحدد على أساسها الالتزامات، وتحولت بذلك إلى أيديولوجيا يلتف حولها الأفراد في الوطن الواحد على اختلاف لغاتهم ومللهم ونحلهم. وانطلاقاً من مبدأ المواطنة يصير جميع الأفراد (المواطنين) في مركز قانوني واحد؛ فما يجوز لفرد يجوز لجميع الأفراد، وما يُمنَع منه فرد يُمنَع منه جميع الأفراد".

وتأسيسا على ذلك، فربما ينبغي أن يسبق الحديث عن الوحدة الوطنية، هذا إذا أريد لمشروعات الوحدة الوطنية إن تتحول من شعار انتهازي ممسوخ إلى مشروع وطني قابل للتحقيق، العمل على غرس قيم وسلوكيات المواطنة الحقيقية بمفهومها المعاصر البعيد عن أية إسقاطات مسبقة تجرد المفهوم من آلية تنفيذه على أرض الواقع، وتحويله من مجرد شعارات تكتسب قيمتها من القدرة على الترويج الرخيص لها في أسواق العمل السياسي، إلى سلوك متجذر يتقمص الفرد العربي والجماعات التي يشكلها في إطار "مواطني" معاصر، يكفل التقدم على طريق بناء وطن تتكرس فيه حينها أخلاقيات الوحدة الوطنية التي لا بد لها أن تسبق الدعوات السياسية -الجادة- لها.

تعليق عبر الفيس بوك