عسكرة الخليجيين... الدفاع والاندفاع

سُلطان الخروصي

الدفاع عن حياض الأوطان مسألة تتَّسم بالقداسة والرفعة منذ أنْ خلقَ الله الأرضَ ومَنْ عليها، وظلت مع سيرورة الزمن ذلك الهدف النبيل الذي يضطلع به أبناء الوطن للتعبير عن حبهم وولائهم ضد أي معتد أو مُتربص.. ظلَّ العالم يعيش وفق معادلة بسيطة جدًّا بأن من يملك القوة والمنعة العسكرية فإنه يظل رقما صعبَ المراس وتُحسب له حسابات ضوئية قبل المغامرة بهزِّ عرشه القويم، إلا أنَّ بعض القيادات التي التهمها الزمن قد اعتراها بين الفينة والأخرى شبحُ الغرور والعظمة، فنادت على الناس "أنا ربكم الأعلى"؛ فخارت قواها واهتزَّت الأرض من تحن أقدامها فعانقت الثرى دون الثريَّا، ولنا في الحربين العالميتين خير شاهد ودليل كوصمة عار في تاريخ الإنسانية الحديث، وكما يُقال في علم الطبيعة "لكلِّ فعل ردة فعل" فإنَّ دغدغة المحتل للاستيلاء على الآخرين دفعتْ بكثير من الأمم والشعوب بأن تضخ أنهارا من ميزانياتها في القطاعات العسكرية؛ مما انعكس سلبا على منظومة البناء والتنمية في مختلف القطاعات التعليمية والصحية والطرق...وغيرها مما يمس حياة المواطنين.

... إنَّ الصراعات التي تعصف بالعالم نجد أغلبها ينطوي على تشبث المستعمر بشماعة غياب العدالة الاجتماعية والفقر السياسي التعددي واغتيال مظاهر الديمقراطية -حسب مرجعية المستعمر لهذا المفهوم المطاطي- وفي هذه المعمعة نجد أن دول الخليج العربي اتسمت بجزء كبير من الهدوء والاستقرار في مختلف القطاعات المؤسساتية والاجتماعية على الرغم من الحكم العائلي الوراثي؛ وقد يُعزى الأمر إلى تحقيق جزء كبير من مظاهر العدالة الاجتماعية والسعي الحثيث نحو التنمية والتطوير بما يحقق طموحات شعوب المنطقة، كما نجد أنها -أي دول الخليج العربي- قد نأت بنفسها عن كثير من المهاترات السياسية والصراعات الاستنزافية التي لا تحقق مصالحها بأي حال من الأحوال، وأمام كل ذلك لم تغفل أهمية تأسيس مؤسسات أمنية ودفاعية متينة لردع الأخطار التي قد تهدد أمنها ومصالحها وشعوبها؛ فظلت -ومنذ ستينيات القرن الماضي- تبني منظومتها الدفاعية وتطورها دون التدخل في شؤون الآخرين.

إلا أنه -وخلال السنوات الخمس المنصرمة- بدأنا نشهد حراكا مريبا ودعوات تحمل في كنهها تساؤلات عديدة وتطرح سيناريوهات مُبهمة عن مستقبل المنطقة؛ إذ وجدنا تبنيّا رسميا لعدد من دول المجلس بتطبيق "التجنيد الإجباري" للمواطنين الذكور؛ وكان المبرر هو غرس قيمة الولاء والانتماء والدفاع عن الوطن ضد أي اعتداء غاشم أو أهداف ضالة تهدد الصالح العام، إلا أنَّ المتتبع لهذه الرؤية يتساءل: هل بالفعل دول الخليج بحاجة إلى تجنيد شعوبها وتعبئتهم بالثقافة العسكرية للدفاع عن الوطن، أم أنَّ في الأمر دوافع أخرى؟

وهل القيادات السياسية والعسكرية في هذه الدول قد أخذتْ بعين الاعتبار سيناريو الانشقاق عن قيادات الحكم في دولها في يوم ما وصعوبة التعامل مع كوادر عسكرية قد يعود نكالا ووبالا عليهم مثلما هي الحال في سوريا ومصر والعراق التي سبقتها في تطبيق هذا القانون؟ ألم تعانِ المملكة العربية السعودية والبحرين من لهيب الإرهاب خلال العقدين الماضيين بسبب بعض المتدربين في السلك العسكري والمنشقين عن القيادة السياسية في البلاد؟، ثم أمام هذا الاندفاع نحو عسكرة الشعوب هل حققت دول المجلس مقصدها التنموي المقبول لتحول ميزانياتها الضوئية للتعبئة العامة في معسكرات الجند؟

من يتَّتبع تفاصيل جيوش دول الخليج العربي، يجد أنها تمتصُ مُقدرات مهولة من ميزانيات الدول الأعضاء في وقت يطرح السؤال نفسه: إذا كانت هذه الدول محمية من قبل أصدقائها من الأمريكان والغرب وروسيا، فلماذا هذا البذخ في التسليح وانخراط المواطنين في السلك العسكري.

وأمام الأموال الفلكية التي تُضخ في تطوير الجيوش الخليجية، ما الدَّاعي الذي حَدَا بدولة قطر أن تعلن في (11/3/2014) عن تطبيق التجنيد الإلزامي على مواطنيها الذكور؟ وما المغزى الحقيقي الذي دفع دولة الإمارات العربية المتحدة في (30/8/2014) إلى تطبيق ذات القانون على الشباب الذين يتراوح أعمارهم بين 18-35؟، وكذا السؤال يطرح على الكويت التي بدأت تطبيق القانون في (14/4/2015) والمملكة العربية السعودية التي بدأنا نسمع جعجعة بتطبيق التجنيد الإلزامي ومنها ما جاء على لسان رئيس هيئة كبار العلماء في السعودية خلال خطبة الجمعة (17/4/2015) التي ألقاها في جامع الإمام تركي بن عبدالله بالرياض بقوله: "نعيش في نعمة الأمن وهي نعمة يحسدنا عليها الآخرون، ومن باب شكر النعمة أن يكون شبابنا في حالة استعداد دائم للدفاع عن الدين والوطن، من خلال تدريبهم عبر التجنيد الإلزامي" فهل الكويت والسعودية بحاجة لهذا التجنيد فعلا؟

... إنَّ المتتبع لتطورات الأحداث، يجد أن تطبيق هذا القانون يحمل بين ثناياه دلالات تشي بجزء من التلكؤ الخليجي عن أصدقاء الأمس ورؤية مستقبلية لأن تكون الدول الأعضاء -باستثناء عُمان- ندا للتوغل الإيراني في المنطقة، والذي أصبح ظاهرا ومعلنا لقيادات المنطقة وعلى رأسها المملكة العربية السعودية التي أعلنتها صراحة في "عاصفة الحزم" أننا نحارب إيران في منطقتنا، ولا أدلَّ على ذلك من الانزعاج الذي أبداه الأمير سعود الفيصل على انزعاجه من رسالة الرئيس الروسي بوتين في القمة العربية المنصرمة بشرم الشيخ: "أننا لا نقبل مساومات وتهديدات من أصدقاء عدونا، وأننا لسنا دعاة حرب لكننا جاهزون لها".

... إنَّ تطبيقَ هذا القانون يحتاج إلى مراس في العصف الذهني وقراءة لما بعد التطبيق بكل جزئيَّاته وتفاصيله؛ فمن الخطورة بمكان أن يكون هذا الإجراء الممول والمدعوم من قبل القيادات السياسية والعسكرية مبني على غرس ثقافة العدائية والانتقام من دول وأنظمة سياسية قد (لا تروق) لأمزجة وأهواء بعض حكام الخليج دون أن تشكل -أي الأنظمة والدول الأخرى- خطرا حقيقيا على المنطقة مما يزيد من حدة التوتر واغتيال الثقة وغرس قواعد الشك والريبة بين الشعوب، وربما تكون لهذه الجموع المسلحة والمدربة ردة فعل وخيمة على الدولة بعد حين؛ لشعورهم بالبؤس والبطالة وغياب العدالة الاجتماعية وتشربهم أدبيات المذهبية والقبلية على حساب الوطن والولاء له، فهل عسكرة شعوب الخليج والاندفاع الجارف لذلك هو للدفاع عن حياض الوطن أم لدوافع سياسية ونزعات وأهواء تنال من التنمية وتدخل المنطقة في حروب استنزاف مقيتة؟

sultankamis@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك