أسماء القطيبي
من بين جميع أنواع الأدب لا أستطيع مقاومة اقتناء كتاب يحكي عن تجربة أحدهم مع السجن، تلك التجربة التي تحكي معاناة حقيقية لأناس لم يتوقعوا يوما أن تكون أقدارهم بتلك القسوة. فتجربة السجن مع ما تحمله من ذل وألم تجعل صاحبها شخصًا آخر لا يمكنه أن يعود كما كان. أنها تعيد له التفكير في معنى الحياة بعمومها. في الحرية وماهيتها، في الأشياء التي كان يملكها دون أن يقدر وجودها، الخيارات التي لم يلتفت لمعنى أن يكون قادرا على المفاضلة بينها، التقرير في أن يظل وحيدا أو لا، في الإقدام على فعل أمر أو التراجع عنه. كل الأمور التي تبدو مألوفة وتافهة تتخذ لمن فقدها معنى أكثر عمقا، وأكثر استحقاقا للامتنان في غالب الأحيان.
إن تجربة السجن تكشف طبيعة الإنسان بكافة تناقضاتها، وأنه لمن المتعب أن يكون الشخص على قدر من الوعي بحيث يكون ملاحظا لتردي حالته على المستوى العاطفي والسلوكي، مدركا ما يواجهه من صراع داخلي وخارجي في سبيل البقاء. ولعلّ أصعب ما قد يواجهه السجين هو فقد الشعور بالزمن، أن تتساوى الأيام بحيث لا يمكنه تحديد الوقت ولو بشكل تقريبي، وما يترتب على ذلك من أزمات نفسية وإضطرابات عقلية، ففي رواية "تلك العتمة الباهرة" يحكي الطاهر بن جلون أنّه ورفاقه وصلوا لمرحلة كانوا يتمنون فيها موت أحدهم حتى يتسنى للآخرين الخروج لدفنه، وبالتالي تعرض أجسادهم للشمس التي حرموا من ضوئها في زنازينهم - التي ليست هي الأخرى سوى قبور أوسع قليلا من تلك التي يحفروها بأيديهم المنهكة-. وهو عذر مقنع في مثل حالتهم، فكم هو شاق أن يحاول السجين الإبقاء على إنسانيته في مكان يسلب فيه أبسط حقوقه و تهدر فيه كرامته دون سبب، وحيث تكون الإهانة مهمة السجان الوحيدة ومرضه المستعصي على التشخيص والعلاج.
إن السجين لا يسعى لأن يبدو كبطل، فالتجربة تجعل منه أكثر نضجا من أن يسعى لحجز مكان بين المشاهير، وعلى العكس تماما نجد غالبا أن السجين بعد خروجه يميل للإنزواء وتجنب أي ظهور إعلامي حتى ولو كان سجنه في سبيل قضية قومية. إنه يشارك تجربته للناس لأسباب أخرى منها ما هو خاص فيه مثل أن الكتابة تساهم في تخليصه من عبء الذاكرة، وبالتالي الإبتسام أخيرا بسخرية في وجة القدر. أوعلى مستوى أكبر يقوم -مدفوعا بمسؤولية تاريخية- بتوثق أحداث مرحلة معينة من السياسة أو جانبها المظلم الذي لا يتسنى للجميع معرفته، ورغم إنّها تجربة ذاتية إلا انها تعطي فكرة جيدة عن ما يدور خلف القبضان الحديدية.
تبدو لي الكتابة في أدب السجون أصعب مما قد نتخيل، فاستحضار تفاصيل القصة، لحظة بلحظة ووجعا بوجع وكأن صاحبها يعيشها مرة أخرى شجاعة كبيرة، خاصة أن المؤثر في هذا النوع من القصص موقف السجين من الأحداث -وليس الأحداث نفسها- وحالته النفسية والعاطفية خلالها، كحديثه عن لحظات اليأس والأمل، وصراحته في البوح بما كان أقصى أحلامه في الحبس، وإستحضاره للعلاقة بينه وبين رفاق الزنزانة الذين انتهى غالبهم بنهايات مأساوية بينما يحاول هو بمزيد من التفاصيل أن يجد لهم مكانا في ذاكرة التاريخ. كل تلك الأمور يتجنب السجين في العادة الحديث عنها لأنها تفتح الجروح على إتساعها، لذا فإن مشاركته القراء إيّاها أمر يدعو للانحناء لكاتبها إعجابا وشكرا.
إن آلامنا تبدو تافهة عند مقارنتها بقصص السجناء هذه، هؤلاء وحدهم يخبروننا أن الحياة لا تستحق أن تعاش إلا بقدر ما تمنحنا ومن نحب حياة هادئة، وما عدا ذلك من مظاهر مزيفة هي سبب أحزاننا. وإنه رغم الخذلان، والفقد، والوحدة التي حين تطول تنهش في الروح، إلا أن هناك أمل. لولاه لما عرفنا قصصهم ومعاناتهم. وفي قصصهم نكتشف كم أن للتجربة يدا سحرية في تغييرنا، في جعلنا أكثر صلابة وقوة، لكن بعد أن ندفع ضريبتها من الألم، ذلك الشعور الذي يتوقف عنده الكثيرين ولا يستطيعون تجاوزه، يتملكهم البؤس وكأن ما من نافذة ستفتح أو بابا سيطرق. إنه لترف أن يتمادى المرء في تعذيب روحه بينما هناك ثمة ما يستحق أن يعاش، شيء يتجاوز القضبان الحديدية والأسوار المشوكة والأحلام التي تشبه الهذيان.