المسؤولية الاجتماعية الثقافية

د. سيف بن ناصر المعمري

يتردد مفهوم المسؤولية الاجتماعية في مجتمعنا بكثرة خلال السنوات الأخيرة، وخاصة من قبل في القطاع الخاص.. الذي بدأت بعض شركاته ومؤسساته تحاول أن تجعل المجتمع واحتياجاته من ضمن الأهداف العديدة التي تسعى إليها.. سيما إن كانت مشاريعها تؤثر على المجتمع المحلي ... سواءً بإقامة منشأة صناعية تحدث ضجيجًا أو تلوثاً ..أو ازدحاماً. فالواجب عليها أن تساهم في سد بعض احتياجات السكان المحليين أو تمكينهم من خلال تقديم بعض البرامج التدريبية أو عرض بعض منتجاتهم الحرفية أو الزراعية .. وهو نهج_وإن جاء متأخراً إلا أنّه يستحق المضي فيه لأن المؤسسات التجارية أقدر من غيرها على التعبير عن المسؤولية المجتمعية"، هذه القيمة المهمة جدًا ..في بناء أيّ دولة وأيّ مجتمع، والتزام المؤسسات الاقتصادية بهذا النهج ..لا يجب أن ينظر على أنّه تكرم ..إنما أداء بسيط لواجب تجاه الموارد والخامات والخدمات والازدحام وغيرها من الجوانب التي تؤثر فيها هذه الشركات على هذا المجتمع ..الذي يُريد أن يشعر بانتمائها للوطن ..بدلاً من أن يشعر بانكفائها حول غاية ربحية على حساب المجتمع.

إنّ المسؤولية الاجتماعية التي لابد أن أشيد بها هذا الأسبوع، هي تلك التي تركز على النهوض بثقافة المجتمع، أي بناء وعي المجتمع من خلال تحفيزه على القراءة ..أخذاً بيده من أجل أن يكون مجتمعًا متعلماً .. في عالم اليوم يتحدّث عن المجتمع المعرفي ..الذي يكون أكبر دعامة لما يسمى "بالاقتصاد المعرفي"، وفي ظل معطيات ومؤشرات تؤكد على تدني معدلات القراءة في المجتمع عند مختلف الشرائح ..وهو الذي حدثته عنه في مقال العام الماضي بعنوان "مجرد ست صفحات"، حيث ظهر أنّ معدل قراءة الإنسان العربي ست صفحات في العام، مما يؤثر في نواحٍ كثيرة في حياته ..سواء تلك المتعلقة بوعيه السياسي أو بنهوضه الاقتصادي، أو بانتمائه للمجتمع، أو بقدرته الناقدة على قراءة الخطابات المتعددة التي يتلقاه كل يوم وتسعى إلى استغلال عواطفه، وتحاول تزييف وعيه، مما يجعله إنسانًا يمكن أن نطلق عليه مصطلح "المتعلم الجاهل"، الذي لديه القدرة على القراءة لكنه لا يقرأ مما يزيد من جهله بالعالم الذي يتطور كل يوم، لقد كشف معرض مسقط الدولي للكتاب هذا العام عن عدد كبير من المبادرات الثقافية التي تأسست من قبل شباب واعين من أفراد المجتمع في ولايات مختلفة من عمان ..جعلوا لهم - رغم ضعف إمكاناتهم- هدف وطني نبيل ..وهو الدعوة للقراءة ..والترغيب فيها ..من أجل إيقاظ الروح العلمية التي عرف بها العمانيون..وأبهروا بها العالم ..إنّهم يودون بمبادراتهم عمل جسر مع تلك الأرواح النائمة في هذه الأرض ..التي عكفت على إنتاج المعرفة ..التي لم تتسع لها مجلدات ..ولا مكتبات ..من غزارتها ..هؤلاء الشباب ..حضروا بقوة في معرض الكتاب ..بكتاب لا يزالون يشكلون مضمون فصوله.. وبعضهم أحضر معه كتبا نتاج ذلك الجهد المتواصل.

إنّ المسؤولية الاجتماعية الثقافية ..تمثل أرقى أنواع المسؤولية ..لأنها تحاول أن ترقى بالعقل ..قبل أيّ شيء آخر .. تحاول أن تحرره من العوائق التي تحول دون فهمه للعالم من حوله، وما نحتاجه اليوم ..هو إعداد المجتمع المتعلم المثقف ..الذي يقضي مساءه في مناقشات وسجالات فكرية، وهذه المبادرات أعدت ليس تأكيداً للوجود .. بل بعضها أثرى المعرض بمجموعة من الكتب التي كانت نتيجة للانغماس في الشأن الفكري المجتمعي ..ومنها مبادرة "شبكة المصنعة الثقافية" التي كنت سعيدًا جدًا أن أجد مجموعة من الإصدارات لأولئك الشباب الذين يديرونها ..والذين دعوني ذات صباح للحديث في إطار مبادرتهم عن المواطنة والنظام الأساسي للدولة .. ويحضرني أيضًا مبادرة "مدينتي تقرأ" التي تسعى لبث الوعي القرائي في ولاية الرستاق ..وأيضاً ساهمت معهم بمحاضرة ..منذ عامين ..تكلمت فيها عن المدينة التي تقرأ الانتماء الوطني ..هذا الانتماء الذي يتطلب التعبير الحقيقي للمسؤولية المجتمعية.

إنّ المسؤولية الاجتماعية الثقافية تعمل من أجل زيادة ما يمكن أن أسميه "الربح المجتمعي"، هذا النوع من الربح يجب أن يحفزنا على الاستثمار .. فعندما يربح المجتمع ...الوعي والفكر ..يربح الوطن التقدم والازدهار ...وهذا هو جوهر الفلسفة الحقيقية للمسؤولية الاجتماعية الثقافية التي ناضل هؤلاء الشباب من أجل استمراريتها رغم الظروف والإمكانات المحدودة التي يتمتعون بها ..ولكنهم كانوا يمتلكون درجة كبيرة من الانتماء الوطني ..مما يسر لهم كل العقبات ..هؤلاء "رسل المسؤولية الاجتماعية"، و"سفراء المواطنة" المسؤولة، هؤلاء الشباب أسسوا نادي المسؤولية الاجتماعية الثقافية وفتح أبوابه على مصراعيها .. والمجال مفتوح للمؤسسات الاقتصادية الخاصة أن تدخل هذا النادي ..أما لدعم مبادراتهم أو لضم مبادرات أخرى ..وهذا أقل واجب يمكن أن تؤديه ..وأفضل طريق يمكن أن تسلكه لتأكيد انتمائها للمجتمع ..فلا يمكن أن يدعم المجتمع قطاع خاص لا يشعر به، يأخذ منه لكن لا يعطيه إلا الخطاب الجميل الذي لا يساعده على تدعيم نهوضه وتنميته.

لم يؤكد معرض الكتاب على تزايد مسار المسؤولية الاجتماعية الثقافية فقط ولكنه كشف عن ميلاد جديد للفكر العماني المعاصر..عن مؤلفين شباب . وكتب عميقة في مجالات الفكر..هؤلاء الشباب سوف يكون لمؤلفاته حضورا بارزا على الساحة الفكرية العربية في المستقبل القريب، وهو الذي يحفز على المضي في تدعيم المسؤولية الثقافية على نطاق واسع.. حيث نطمح أن نزرع مليون نبتة ثقافية في أرض عمان.. تكون في عطائها .. سامقة كنخيل عمان في الشمال والجنوب، وفي ثباتها..شامخة كجبال الحجر ..نريدها النباتات التي تثمر فكراً معتدلا..وأدباً راقياً، وشعراً عذباً ..هذا هو مسارنا كأمة .. وهذه نباتاتنا كشعب. ومسؤوليتنا الاجتماعية- والتي يجب أن نتحملها- سواء كنّا أفرادًا أو مؤسسات هي تعهدها بالرعاية ....فلا قيمة لمفكر أو مثقف ..لا يفتح نوافذ إبداعه على مجتمعه.

إنّ موضوع المسؤولية الاجتماعية الثقافية يجعلني أعود إلى فقرة كتبتها في مقال العام الماضي..ولكن مضمونها لا يزال ملحاً وهو أننا "بحاجة لأن نرد أنفسنا رداً جميلاً إلى الكتاب في هذا العام كأفراد ومؤسسات، وأن نستلهم بعض الرؤى التي تساعدنا على تحقيق ذلك، ومنها أن نضع في جدولنا اليومي قراءة صفحات محدودة فكما قال الطنطاوي: أنا من ستين سنة أقرأ كل يوم خمسين صفحة ألزمت نفسي بها، ويمكنك أن تقرأ عشر صفحات فقط ليكون المجموع (3650) صفحة في العام، كما أننا يجب أن ننقل الاهتمام من الكاتب إلى القارئ من خلال تأسيس جمعية للقراءة أسوة بجمعية الكتاب، فالقراء جمهور كبير يحتاجون لمثل هذه الجمعية للارتقاء بالقراءة وتنظيم مبادراتها، علاوة على ذلك تبدو الحاجة ماسة لإخراج كل الكتب من الغرف المظلمة في البيوت .. إلى النور ليستفاد من نورها أكبر عدد من الطلبة والقراء، ووضعها في مكتبات عامة في جميع المحافظات... فلو أنّ كل عماني عبر عن مسؤوليته الوطنية وتبرع بخمسة كتب لاستطعنا أن نؤسس مكتبة كبيرة في كل محافظة ... إنه مشروع للنور ... والمشاريع العظيمة لا تصنعها دائماً الإمكانات الكبيرة ...تحتاج الإرادة ...والإخلاص فقط.

saifn@squ.edu.om

تعليق عبر الفيس بوك