خالد بن حمد الرواحي
لم يعد التحول الرقمي في الإدارة خيارًا تجميليًا، ولا مشروعًا تقنيًا يمكن تأجيله؛ بل أصبح أحد شروط بقاء المنظومة الحكومية القادرة على الفهم قبل الفعل، وعلى التخطيط قبل الاستجابة، وعلى التنبؤ قبل المعالجة. ولذلك لم يكن غريبًا أن يصف الإعلان هذه الخطوة بأنها بداية «عهد جديد للإدارة المالية»؛ لأنها تمس طريقة التفكير بقدر ما تمس الأدوات.
وفي هذا السياق، يأتي إطلاق وزارة المالية للمرحلة الأولى من نظام «مالية» أكثر من مجرد منصة إلكترونية جديدة؛ بل يأتي إعلانًا صريحًا عن انتقال المنظومة الحكومية من إدارة تعتمد على الذاكرة والخبرة الفردية، إلى إدارة تستند- للمرة الأولى بهذا الاتساع- إلى البيانات بوصفها أساس القرار.
وعمليًا، حين تُجمع الأنظمة المالية المتفرقة في منصة واحدة، وتصبح البيانات آنية، شاملة، ومترابطة، فإنَّ السؤال لم يعد: كم أنفقنا؟ بل لماذا أنفقنا، وعلى ماذا، وبأي أثر؟ وماذا يعني كل ذلك لمستقبل الاستدامة المالية؟ هنا فقط تتحول الميزانية من وثيقة رقمية تُغلق في نهاية العام، إلى أداة تفكير حيّ تُفتح كل يوم.
وهذا التحول لم يُطرح بوصفه قفزة فجائية؛ بل مسار تدريجي يمتد حتى اكتماله في عام 2028؛ بما يمنح المؤسسات مساحة للتعلّم والتكيّف، وإعادة بناء علاقتها بالقرار خطوة بخطوة.
وليس من قبيل المصادفة أن تبدأ التجربة في جهات مركزية مثل وزارة المالية، ووزارة الصحة، ووزارة التربية والتعليم، ووزارة الاقتصاد، وجهاز الضرائب، والمستشفى السلطاني، والمديرية العامة للتربية والتعليم بمحافظة مسقط؛ لأن التحول الحقيقي يبدأ عادة من قلب النظام، لا من أطرافه.
لكن في العُمق، لا تكمن القيمة الحقيقية لهذا التحول في التقنية نفسها، بل في ما تفرضه من تغيير في منطق الإدارة. فالنظام لا يصنع الرؤية، بل يكشف غيابها؛ لا يُنتج القرار الرشيد، بل يعرّي القرار المرتجل؛ ولا يخلق الشجاعة، بل يمنع الاختباء خلف الغموض. ومع دخول البيانات إلى غرفة القرار، لم يعد ممكنًا أن تظل الأخطاء غير مرئية، ولا أن تبقى القرارات بلا تفسير، ولا أن يستمر التخطيط بوصفه فعلًا افتراضيًا منفصلًا عن التنفيذ والرقابة.
وهذا التحول- مهما كان ضروريًا- ليس سهلًا نفسيًا ولا ثقافيًا؛ فالإنسان الذي كان يُدير عمله بالاجتهاد والخبرة الشخصية، سيجد نفسه الآن أمام نظام يرى الكثير، ويسجّل الكثير، ويقارن الأداء. ينتقل هنا من مساحة الحركة غير المرئية إلى مساحة الأداء القابل للقياس، ومن منطق «أديت ما استطعت» إلى منطق «أين الأثر؟».
وهنا يبرز السؤال الأهم: هل نحن مستعدون لهذا الانتقال ثقافيًا كما نحن مستعدون له تقنيًا؟ وهل نُهيّئ القادة ليستخدموا البيانات للفهم لا للعقاب، وللتصحيح لا للتصيد، وللتطوير لا للمساءلة الانتقائية؟ لأن أخطر ما يمكن أن يحدث لنظام ذكي، هو أن يُدار بعقلية قديمة.
وهنا يبدأ التحول الحقيقي: لا حين نُغيّر النظام، بل حين نُغيّر علاقتنا به. حين نكفّ عن استخدام الأرقام لتبرير ما قررناه مسبقًا، ونبدأ باستخدامها لفهم ما يجب أن نقرره؛ وحين تصبح الشفافية أداة بناء ثقة، لا مصدر خوف؛ وحين يشعر الموظف أن النظام لم يُنشأ لمراقبته، بل لحمايته من القرارات العشوائية، ومن التقييم غير العادل، ومن الغموض الذي يرهق الجميع. وحين تصبح دورة التخطيط، والتنفيذ، والرقابة مترابطة في نظام واحد، فإن القرار يتوقف عن كونه حدثًا لحظيًا، ويصبح مسارًا يمكن تتبّعه، ومراجعته، وتصحيحه.
«مالية»- إذن- ليس اختبارًا تقنيًا بقدر ما هو اختبار وعي؛ اختبار لقدرتنا على أن نكوِّن منظومة حكومية تتخذ قراراتها بعقل مفتوح لا بذهن دفاعي، وبشجاعة مسؤولة لا بحذر مفرط، وبفهم عميق لا بردود فعل سريعة. فإن نجحنا في هذا، فلن نكون قد أدخلنا نظامًا جديدًا إلى مؤسساتنا؛ بل أدخلنا طريقة جديدة للتفكير في الإدارة، والقرار، والمسؤولية العامة.
