حين تتسع الفجوة بين الحلم والواقع

خالد بن حمد الرواحي

ليست الجهات الحكومية هياكل جامدة تتحرك بالأرقام وحدها؛ بل تُشبه الإنسان في كثيرٍ من تفاصيلها؛ تحلم، وتُخطّط، وتتوقع، ثم تواجه واقعًا لا يسير دائمًا بالوتيرة ذاتها. فهي، مثل الإنسان، تعيش حالة دائمة من الشدّ بين ما هو كائن وما تأمل أن يكون. وكلما اتسعت الفجوة بين الواقع والتوقع، ازداد التعب، وتراكم القلق، وتراجع الإحساس بالرضا، سواء لدى الفرد أو داخل المؤسسة. أمّا حين تُدار هذه الفجوة بوعي، وتُقلَّص بخطوات واقعية قابلة للتنفيذ، فإن الراحة تتقدّم، والإنتاجية تزدهر، ويستعيد العمل معناه وجدواه.

وجوهر هذه المعادلة لا يكمن في الحلم ذاته؛ بل في طريقة إدارته حين يصطدم بالواقع.

بهذا المعنى، لا تختلف المؤسسات كثيرًا عن الأفراد. فهي أيضًا تُعلن رؤى طموحة، وتعقد مؤتمرات، وتُطلق خططًا واستراتيجيات تُقدَّم بوصفها صورة المستقبل المنشود. وهذه الصورة تمثل جانب التوقع؛ اللغة التي نحب سماعها، والعناوين التي تُقدَّم بثقة، وتمنحنا إحساسًا بأن القادم أفضل، وأن التغيير بات قريبًا وقابلًا للتحقق.

غير أنَّ هذه اللغة- على أهميتها- تظل إطارًا نظريًا ما لم تتحول إلى ممارسات ملموسة، وما لم تجد طريقها إلى تفاصيل العمل اليومي، حيث تُختبر الوعود، وتُقاس المسافة بين ما قيل وما أُنجز.

لكن السؤال الجوهري لا يبدأ في قاعات المؤتمرات، ولا عند منصّات الخطاب؛ بل بعد أن تُطوى الملفات وتُغلق الشاشات. يبدأ حين نُغادر اللغة المُعلنة إلى الواقع العملي، ونسأل بهدوء وصدق: ما الذي تحقق فعلًا؟ وأين نقف اليوم بين ما وُعِدنا به، وما نعيشه في تفاصيل العمل اليومية؟ هنا تحديدًا تتشكّل الفجوة، لا بوصفها خللًا في النوايا أو ضعفًا في الطموح؛ بل اختبارًا صعبًا لقدرة المؤسسة على ترجمة الحلم إلى ممارسة قابلة للقياس والاستمرار.

في كثيرٍ من الأحيان، لا تكمن المشكلة في غياب الرؤية؛ بل في تضخّمها مقارنة بقدرة التنفيذ الفعلية. تُكتب الخطط بلغة عالية السقف، وتُقدَّم الأهداف بصياغات مثالية، بينما تبقى الأدوات محدودة، والموارد مرهقة، فيتحول الحلم تدريجيًا من مصدر إلهام إلى عبءٍ صامت. ومع مرور الوقت، لا يعود الواقع اليومي مساحةً للتقدّم؛ بل ساحةً للتكيّف المستمر مع ما هو متاح.

وثمّة مقولة تختصر هذه المفارقة ببلاغةٍ مؤلمة: «أغنى مكان في العالم هو المقابر»، لا لأنها تضم ثروات؛ بل لأنها احتوت أحلامًا وأفكارًا لم تجد طريقها إلى الحياة. والمفارقة أن بعض الخطط المؤسسية، حين لا تُتابَع ولا تُراجَع بجدية، تسير في المسار ذاته؛ لا تتوقف فجأة، ولا تُعلن فشلها؛ بل تُؤجَّل بصمت، وتبقى حاضرة في التقارير، غائبة عن الأثر، وكأنها وُجدت لتُكتب لا لتُنجز.

وثمن هذه الفجوة لا يُقاس بالأرقام وحدها؛ بل بما تتركه في النفوس من أثرٍ صامت وعميق؛ موظفٌ يفقد حماسه حين لا يرى ثمرةً حقيقية لجهده، ومستفيدٌ تتراجع ثقته حين لا يلمس فرقًا واضحًا بين الوعود والواقع، ومؤسسةٌ تُرهق نفسها بإعادة إنتاج الخطاب بدل إصلاح الممارسة. وهنا لا يكون الخلل في الحلم ذاته؛ بل في المسافة التي تُترك بينه وبين من يُفترض أن يحملوه إلى حيّز التنفيذ.

وتقليص هذه الفجوة لا يعني خفض سقف الطموح؛ بل مواءمته بوعي مع الواقع، وبناء الخطط على ما يمكن إنجازه فعلًا، لا على ما يبدو جميلًا في العروض. ويعني ذلك أن تُراجَع الأهداف بصدق وشفافية، وأن تُقاس النجاحات بالأثر الحقيقي لا بكثرة الكلمات، وأن يُمنح الإنسان داخل المؤسسة دورًا فاعلًا في صناعة التغيير، لا أن يُطلب منه تحقيقه بمفرده دون أدوات أو دعم.

في النهاية، لا يُقاس نضج المؤسسات بعدد رؤاها، ولا بكثرة مؤتمراتها؛ بل بقدرتها على تحويل الحلم إلى واقع. فالأحلام حين تبقى معلّقة تُرهق، وحين تُدار بعقلٍ عملي تُلهم. وبين هذا وذاك، تتحدد المسافة التي تصنع الفرق… بين مؤسسةٍ تتقدّم، وأخرى تكتفي بأن تحلم.

والمؤسسات التي تُحسن تقليص هذه المسافة، لا تُحقق الأهداف فحسب؛ بل تُعيد للناس ثقتهم بالعمل، وبمعناه، وبقيمته.

الأكثر قراءة

z