التسريح والأبعاد الاجتماعية والتنموية

 

 

يبقى العامل الحاسم في هذه القضية هو مدى إدراك أصحاب العمل والقرار للأبعاد الناتجة عن قرار التسريح

 

د. محمد بن خلفان العاصمي

 

لا شك أنَّ قضية التسريح عن العمل هي أهم ما يشغل الحكومة بجانب قضية الباحثين عنه، وتشكل هاتان القضيتان التحدي الأكبر الذي تُواجهه الدولة وتسعى جاهدة لإيجاد حلول لهما، وبقدر الحاجة المُلحَّة إلى سرعة إنجاز هذا الملف الشائك، تبرز تحديات وعقبات جديدة تزيد من صعوبة الوضع.

وحقيقة الأمر أنَّ مثل هذه القضايا سببت الكثير من الصداع لدول تفوقنا إمكانات وقدرات وذات اقتصاد قوي، إلّا أنَّ الطبيعة الديناميكية لهذه التحديات تفرض واقعًا مُعقَّدًا في ظل التحدي الاقتصادي، وفي ظل عامل الزمن الذي يُؤدي دورًا كبيرًا في حسم مثل هذه الملفات؛ حيث إنَّ كل يوم يمُر دون حل يضيف عقدة جديدة في بطن هذه القضية تحتاج إلى فكٍّ مستقبلًا.

ويبرز التسريح عن العمل كقضية مجتمعية ذات بُعد اجتماعي عميق؛ حيث إنَّ هذا الأمر لا يطال المُسرَّح فقط ولا يؤثر عليه مفردًا واحدًا؛ بل إن التأثير يشمل أسرة كاملة تعتمد عليه بشكل كامل في أمورها، وهذا الجانب يُضفي على القضية صعوبة بالغة؛ حيث تتعقد أوضاع الأسرة وتدخل في مرحلة التفكير في آلية مواجهة الوضع وما يترتب عليه من ترتيب أولويات والاستغناء عن أمور أساسية، والتفكير في توفير الاحتياجات الضرورية من خلال التخلي عن المدخرات والأملاك إن وجدت، في ذات الوقت الذي يبدأ فيه المُسرَّح في البحث عن حلول بديلة وقتية لمواجهة وضع لم يكن متوقعًا.

لا يمكن إدراك الواقع النفسي الذي تعيشه أسرة المُسرَّح عن العمل وكذلك هو نفسه؛ فالأمر ليس سهلًا بكل تأكيد ولستُ هنا للحديث عن هذا الجانب المؤلم؛ فهو غير خافٍ على أحد، ولا يحتاج إلى أي تفصيل، ولكنني أرغب في تغيير زاوية الرؤية لهذه القضية التي هي مصير وواقع قد يجده الإنسان أمامه في أي لحظة خاصة لأولئك العاملين في القطاع الخاص، هذا القطاع الذي يعتمد معادلة بسيطة جدًا في تعامله مع الواقع العملي تنطلق من الربح والخسارة فقط، وهذه طبيعة هذا القطاع، ولا يمكن الدخول في نقاش حول هذا الجانب لأنه لن يفضي إلى نتائج.

من أجل ذلك على أي فرد يعمل في هذا القطاع أن يضع في اعتباره قضية التسريح في أي لحظة وهنا لا أقصد الفكرة فقط؛ بل عليه أن يُنظِّم حياته وحياة عائلته وفق آلية تستوعب صدمة التسريح بأقل قدر مُمكن من الصعوبة، وهناك الكثير والكثير من التفاصيل في هذا المجال يُمكن الحديث عنها في مقال آخر، ولعل هذا هو الأمر الذي قد يُساعد قليلًا في كسب الوقت للتعامل مع الوضع الجديد إلى أن يكون هناك حل للمشكلة وعمل جديد ومصدر دخل يعيد التوازن إلى المسرح وأسرته.

في الجانب الآخر، على المؤسسات أن تُدرك أنَّ دورها لا ينحصر في قضية الربح والخسارة فقط، خاصةً عندما تكون هذه الخسارة ناتجة عن سوء إدارة وعدم كفاءة في التعامل مع الأزمات، ويجب ألّا يكون الموظف هو أوَّل الحلول التي تلجأ إليها المؤسسات لتقليص خسائرها، وهناك الكثير من الوسائل البديلة التي يمكن أن تُساعد في حل المشكلات والأزمات المالية غير تسريح الموظفين، وهنا يجب أن تعلي المؤسسات من قيمة المورد البشري في منظومة العمل وأن تتعامل مع هذا المورد بشكل إنساني ينُم عن شعور بالمسؤولية تجاه أسرته في المقام الأول وتجاه المجتمع في المقام الثاني، وهذه المسؤولية هي جزء من قيم العمل وقيّم المؤسسات التي تبرز كمؤسسات مجتمعية تتجاوز فكرة الاستغلال لتحقيق الربحية إلى فكرة الشراكة.

قد يتقبَّل المجتمع فكرة التسريح في حدود ضيقة جدًا وفي ظروف مُعينة، عندما يُثبت الواقع أنَّ التسريح هو آخر الحلول، أما عندما تنتهج شركات رابحة هذا النهج؛ فهناك خللٌ قيميٌّ يجب مُعالجته بشكل مُباشر، وعلى جهات الاختصاص أن تراقب الوضع بشكل صارم، وأن تضع قوانين صارمة لمواجهة هذه القضية لأن انعكاسها السلبي على البلد ذو تأثير كبير، ولا بُد من تطوير الأنظمة والقوانين التي تساعد في الحد من هذه الممارسات اللامسؤولة والتعامل معها بشكل فعَّال من أجل الحفاظ على المجتمع واستقرار الأسرة وحمايتها من مخاطر التفكك.

لن أطيل الحديث في هذا الموضوع؛ فهو لا يحتاج إلى إسهاب ويكفي أن نرى آثاره لندرك مدى أهمية القضاء على هذه المشكلة، وبكل تأكيد هناك جهود كبيرة بذلت وتبذل في هذا الاتجاه، وهناك الكثير من الاهتمام بهذا الملف من القيادة الرشيدة لسرعة التعامل مع هذا الملف وتقديم حلول مناسبة؛ سواء من خلال منفعة الأمان الوظيفي أو من خلال أولوية التوظيف للمُسرَّحين وحتى من خلال عدم السماح للمؤسسات بتسريح العاملين فيها إلّا وفق معايير وضوابط مُحددة، ويبقى العامل الحاسم في هذه القضية هو مدى إدراك أصحاب العمل والقرار للأبعاد الناتجة عن قرار التسريح.

الأكثر قراءة

z