د. هبة العطار
السعادة أحيانًا لا تعرف سببها ولا تملك تفسيرًا واضحًا لوجودها تأتي كحالة وجدانية خالصة لا تحتاج إلى مُبرر ولا تستأذن العقل؛ قبل أن تستقر في القلب نشعر بها فجأة فنندهش من أنفسنا أكثر مما نندهش منها ونسأل لماذا الآن ولماذا هكذا وكأننا لا نثق في الفرح إلا إذا كان له سبب منطقي واضح بينما الحقيقة أنَّ بعض أصدق المشاعر هي تلك التي لا نملك لها تفسيرًا.
وحين تحضر السعادة لا ينبغي أن نناقش أنفسنا كثيرًا فالإفراط في التحليل يبدد الدهشة ويضعف الإحساس ويحوّل اللحظة من تجربة إنسانية حيَّة إلى قضية ذهنية باردة هناك لحظات خُلقت لتُعاش لا لتُفهم ولتُحس لا لتُفسر السعادة واحدة من هذه اللحظات إن أمسكت بها بالعقل وحده أفلتت وإن تركتها للقلب بقي أثرها.
غير أنَّ الإشكال الحقيقي يبدأ عندما نقرر أن نجعل السعادة هدفًا نهائيًا للحياة حين نضعها في موضع الغاية ونقيس نجاحنا وفشلنا بمدى اقترابنا منها أو ابتعادنا عنها هنا تتحول السعادة من حالة وجدانية طبيعية إلى عبء نفسي ومن هبة عابرة إلى مطلب دائم ومع الوقت لا نعود نعيشها؛؛ بل نطاردها وكل مطاردة تنتهي بالإرهاق.
وحين تصبح السعادة هدفًا غالبًا ما تنزلق إلى معناها الأسهل والأسرع اللذة؛ فاللذة وعد فوري بالإشباع لا يحتاج إلى صبر ولا إلى عمق لكنها في الغالب شعور مؤقت هش سرعان ما يترك خلفه فراغًا أو ندمًا أو ألمًا خفيًا ليست كل لذة خاطئة لكن الخطأ أن نخلط بينها وبين السعادة وأن نطلب من اللذة ما لا تقدر عليه.
الفلسفة منذ بداياتها فرّقت بين السعادة والمعنى فالسعادة ليست في الامتلاء الدائم؛ بل في الاتزان ليست في كثرة المتع؛ بل في وضوح القيمة الإنسان لا يكون سعيدًا لأنه حصل على كل ما يريد؛ بل لأنه فهم ما يستحق أن يُراد وحين يختلط المقياس يصبح الإنسان أسير رغباته يلهث خلف إحساس عابر ويظنه خلاصًا.
السعادة الحقيقية لا تُفرض ولا تُصنع بالقوة ولا تُستدرج بالحيل هي نتيجة جانبية لحياة متزنة لسلام داخلي لتصالح مع الذات ومع فكرة النقص الإنساني أن تق؛ بل أنك لن تكون سعيدًا طوال الوقت هو في حد ذاته خطوة عميقة نحو السكينة فالرغبة في سعادة دائمة هي إنكار لطبيعة الحياة التي تقوم على التغير والتقلب والاكتمال المؤقت.
وحين نفهم السعادة على هذا النحو نتوقف عن مطاردتها ونبدأ في استقبالها نمنحها حق الزيارة دون أن نطالبها بالإقامة نسمح لها أن تمر أن تترك أثرًا وأن ترحل دون شعور بالخسارة فبعض الأشياء الجميلة قيمتها في عابرها لا في دوامها.
وبالنظر إلى السعادة بعين التصوف ندرك أنها ليست ملكًا لنا؛ بل نفحة عابرة من معنى أكبر وأن القلب لا يُفتح بالطلب؛ بل بالتجرد ولا يمتلئ بالسعي؛ بل بالسكينة فالوجود لا يكافئ اللهفة؛ بل يهب نفسه لمن يرضى وحين يخف تعلّق الإنسان بما يظنه خلاصه تتسع المسافة بينه وبين الألم ويقترب من معنى الرضا لا بوصفه استسلامًا؛ بل وعيًا عميقًا بحكمة النقص فالسعادة في هذا المقام ليست ما نمتلكه؛ بل ما نكف عن مطاردته وليست ما نُمسك به؛ بل ما يسمح لنا بأن نكون خفافًا في هذا الوجود وحين نتصالح مع الفقد ونتخفف من وَهْم الامتلاك نكتشف أن السعادة لم تكن غاية نسعى إليها؛ بل أثرًا جانبيًا للحضور وأن أجمل ما فيها أنها لا تُحتجز ولا تُقنن؛ بل تُعاش في صفاء ثم تُسلّم في طمأنينة تشبه اليقين.
