التفكير الناقد.. حصانة للمجتمع في عصر الشائعات الرقمية

 

 

 

د. عبدالعزيز بن محمد الصوافي **

في زمن مُتسارع تتدفق فيه الرسائل النصية والمقاطع المرئية والصوتية بضغطة زر عبر هواتفنا النقالة، أصبح تداول المعلومات دون تمحيص أو تفكير ظاهرة بارزة ومتنامية ومقلقة. يتعامل كثيرًا من الناس مع ما يصلهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيق "واتسآب" كمسلمات لا شك فيها وغير قابلة للجدال، لذا نجدهم يسارعون في نشرها وتداولها دون تفكير أو تأنٍ مما يؤدي إلى انتشار الشائعات والمغالطات، وفقدان الثقة بين أفراد المُجتمع. المشكلة ليست في وفرة المعلومات وتنوعها، بل في ضعف أدوات قراءتها وتمحيصها؛ حيث نجد أن الرغبة في سرعة الانتشار تتغلب على بطء التحقق من صدق المعلومة، والعاطفة والسعي للسبق الصحفي تتفوق على العقل والمنطق؛ حيث تُغري العناوين البراقة والأرقام المصطنعة والصور المزيفة واللغة المنمقة المتصفح لنشرها والترويج لها دون أدنى تفكير.

لقد بلغ الأمر حد تداول كثير من أفراد المجتمع؛ بل وبعض القنوات التلفزيونية والإخبارية العالمية، لصور ومقاطع مرئية مفبركة ومولَّدة بواسطة أدوات الذكاء الاصطناعي على أنها حقائق وأخبار مؤكدة! السقوط الأخلاقي والمهني في هذا الفخ يعكس بشكل واضح مدى عمق المشكلة من جهة وغياب ثقافة التفكير الناقد على المستويين الفردي والمؤسساتي من جهة أخرى. فكم من خبر مختلق تم نشره والترويج له على أنه حقيقة أدى إلى حدوث حالة من عدم الاستقرار على المستويين الفردي والمجتمعي.

وفي إحدى الحالات المُوثَّقة، تداول الناس في إحدى الدول بيانات مالية ومعلومات اقتصادية ووثائق حكومية مختلقة وغير دقيقة من مصادر غير موثوقة، مما أدى إلى تدهور حاد في قيمة عملتهم الوطنية؛ وهو ما يعكس محدودية الوعي لدى البعض حين ينشر ما يضر وطنه واقتصاده. وهنا تبرز الحاجة الملحّة إلى غرس مهارات التفكير الناقد لدى جميع شرائح المجتمع، حتى لا يتحولوا إلى معاول هدم لأوطانهم وشعوبهم.

التفكير الناقد، من منظور علمي، هو مهارة منهجية علمية تُحَوِّل الفضول إلى أسئلة، والأسئلة إلى أدلة، والأدلة إلى استنتاجات قابلة للاختبار. إنه القدرة على فحص المصدر، وتحليل المنطق، والتفرقة بين الرآي والحقيقة، ورصد التحيزات المعرفية مثل تحيز التأكيد ووهم التعميم والانحياز للجانب الأقوى والمهيمن. وهو كذلك ممارسة لـما يُعرف بـ"التربية الإعلامية" التي تُمَكِّن الفرد من قراءة ما بين السطور وفهم الكيفية التي يُصنع بها الخبر، ولماذا نُشر، وما دلالة توقيت نشره وما الذي يُخفيه وراء صياغته.

عمليًا، تبدأ الحصانة الرقمية بـ"وقفة متأنية" قبل الضغط على زر المشاركة وطرح الأسئلة التالية: من صاحب المعلومة؟ هل ذُكرت مصادر الخبر أم نُسب إلى مصدر مجهول كالعادة وتحت مسمى"مصدر موثوق" أو "مصدر مطلع"؟! وما دلالة تاريخ النشر وسياقه؟ وهل تؤيدها جهات مستقلة أم تعتمد على دليل انتقائي؟ القراءة الأفقية (مقارنتها بمصادر متعددة أخرى)، والتحقق من هوية الكاتب، وفحص الصور والفيديوهات بحثًا عن مؤشرات التلاعب، كلها خطوات صغيرة تصنع فارقًا كبيرًا.

وفي ما يتعلق بالنظام التعليمي، يمكن دمج أنشطة تحليل الأخبار وتفكيكها، والحوار السقراطي، ومحاكاة مراجعة الأقران، لتكوين عادة عقلية تُقدّم البرهان على الانطباع وتفُرق بين الرأي والحقيقة. في هذا السياق، يُعول الجميع على دور النظام التربوي في ترسيخ قيم ومهارات التفكير الناقد من خلال المناهج والأنشطة الصفية واللاصفية.

أخيرًا، من المهم التأكيد على أنَّ المسؤولية مشتركة؛ حيث المطلوب من جميع الجهات الحكومية والأهلية أن تُطلق حملة توعوية مصدرها القرآن الكريم بعنوان: "فَتَبَيَّنُوا".

التفكير النقدي ليس شكًا مرضيًا؛ بل ثقة مسؤولة تُصان بالأسئلة الجيدة. إن بناء بيئة معلوماتية صلبة يبدأ من فرد يتساءل، ومجتمع يُثمّن الحقيقة ولا يقبل بأن يكون مستقبلًا ومروجًا لكل إشاعة هدامة، وقوانين صارمة تُعاقب كل مخُتلق للإشاعة ومروج لها.

** باحث أكاديمي

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z