خالد بن سالم الغساني
منذ الإعلان عن اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بين سلطنة عُمان وجمهورية الهند، وحتى ما بعد توقيعها رسميًا، ما يزال المُجتمع يشهد نقاشات واسعة وتأويلات متباينة حول مضامينها وآثارها، امتدت من المجالس العامة إلى منصات التواصل الاجتماعي. وفي خضم هذا الجدل، من المُدهش اكتشاف أنَّ معظم ما يُتداول يستند إلى اجتهادات فردية وتحليلات غير رسمية، في ظل غياب توضيح مُعلن يُفسِّر بنود الاتفاقية ويضعها في إطارها الدقيق.
وفي الوقت الذي تتعدد فيه مصادر الأخبار ووسائل الإعلام، وتتسارع منصات التواصل، وتتداخل الأخبار الرسمية مع التحليلات والتعليقات والآراء، فإنَّ الحدث السياسي أو الاقتصادي وسواهما، لم يعد حبيس القنوات الرسمية والتقليدية؛ بل أصبح مادة متداولة على نطاق واسع وخاضعة للإضافة والنقصان والتحريف والتكييف، تُعاد صياغتها وتفسيرها لحظة بلحظة. وفي مثل هذه السياقات المتحركة، تُصبح المعلومة الدقيقة الصادرة من الجهة المعنية، عنصرًا أساسيًا في حفظ الاستقرار، لا تقل أهمية عن القرار السياسي ذاته. غير أنَّ ما يلفت النظر في كثير من القضايا ذات الطابع السيادي أو الاستراتيجي هو اتساع الفجوة بين ما يصدر أو يعمل أو يقر رسميًا دون شرح أو توضيح كافٍ، وما يتداول اجتماعيًا؛ حيث تُترك الأخبار والاتفاقيات والتصريحات الخارجية لتفسّر في المجالس والمنصات الرقمية دون إطار توضيحي واضح، ودون تدخل رسمي يشرح أو يُصحح أو يضع الأمور في سياقها الطبيعي. هذا الفراغ، مهما كانت أسبابه أو تبريراته، لا يبقى حياديًا؛ بل يُستغل ويتحول إلى مساحة خصبة للاجتهاد، والمُغالطة وسوء الفهم، وأحيانًا كثيرة التضليل.
وفي تقديري، فإنَّ ما يحدث، ليس تعبيرًا عن رغبة المجتمع في التشكيك بقدر ما هي مخاوف وانعكاس لحاجة فطرية وضرورية للفهم والاطمئنان على أمر مُهم يخص الجميع ويلامس حياتهم واحتياجاتهم؛ فالمواطن حين يسمع عن اتفاقية دولية تمس الاقتصاد أو السياسة أو الثقافة أو العمالة أو السيادة، أو يتابع تصريحات إقليمية تتناول الحدود أو الجغرافيا السياسية، بالضرورة يبحث- وبطبيعته- عن تفسير رسمي يُطمئنه ويُحدِّد له ما هو ثابت وما هو مُتغيِّر. وعندما لا يجد هذا التفسير، يلجأ إلى التحليل الشخصي، أو إلى ما يُتداول عبر وسائل الإعلام الأخرى أو وسائل التواصل؛ حيث تختلط المعلومة بالرأي، ويتساوى المختص بغير المختص، وتضيع الحقيقة بين المبالغة والتهويل.
ويتضاعف أثر هذا الغياب حين لا يكون الفراغ مُتكافئًا؛ أي عندما تلتزم جهة ما التحفظ والصمت، بينما تُبادر أطراف أخرى إلى تقديم روايتها الخاصة عبر تصريحات رسمية أو تغطيات إعلامية نشطة، تُبرز الاتفاقيات أو التفاهمات بوصفها إنجازًا أحادي الجانب. وفي مثل هذه الحالات، لا تُترك الساحة فارغة أبدًا؛ بل تُملأ برواية واحدة تتكرر وتُعاد صياغتها حتى تترسخ في الوعي العام، ليس داخل حدود الطرف الآخر فقط؛ بل تمتد آثارها إلى الداخل؛ حيث تُستقبل هذه التصريحات دون مقابل توضيحي يضعها في إطارها الواقعي. وعندما تُقدّم بعض الاتفاقيات في الخطاب الخارجي على أنها مكسب لطرف وخسارة لطرف آخر، دون رد رسمي يوازن الصورة أو يُصحح مبالغاتها، يُصبح الصمت عاملاً مساعداً على تضخيم الانطباع السلبي، حتى وإن كانت بنود تلك الاتفاقيات في جوهرها متوازنة أو بعيدة عن التصورات المتداولة.
إنَّ تأخر التوضيح الرسمي في القضايا الحساسة- مع تفهمنا لمبرراته في كثير من الأحيان- لا يُقرأ في الوسط الاجتماعي بوصفه تعقّلًا أو تحفظًا دبلوماسيًا أو حكمة؛ بل غالبًا- إن لم يكن دائمًا- ما يُفسَّر على أنه ارتباك أو قبول ضمني بما يُقال، حتى وإن كان ذلك بعيدًا عن الواقع. وهنا تكمن الخطورة؛ لأن الوعي العام لا يتشكل وفق النيات، بل وفق الانطباعات. والانطباع الذي يتكرر ويتداول دون تصحيح، يتحول مع الوقت إلى قناعة راسخة، يصعب تفكيكها مهما كانت الحقيقة مغايرة.
ووجود متحدث رسمي، أو جهة تواصل واضحة ومحددة الصلاحيات، لا يعني الانخراط في جدل يومي، ولا تبرير كل خطوة سياسية أو اقتصادية. المقصود هنا هو إدارة الرواية الرسمية للدولة، ووضع حدود للفهم، ومنع الانزلاق نحو تأويلات تمس الثوابت الوطنية. في كثير من الأحيان، تكفي جملة واحدة مدروسة، أو بيان مختصر بلغة هادئة، لإغلاق باب واسع من الشائعات، ولإعادة النقاش إلى مساره العقلاني. الدول التي تتمتع باستقرار داخلي لا تفعل ذلك لأنها تكثر الكلام، بل لأنها تعرف متى تتكلم، ومتى يكون الكلام ضرورة لا خياراً، وبلادنا ولله الحمد تتمتع بكثير من تلك المزايا، إلّا أن اختلاط الأحداث وتعدد الدوائر ووسائط ورسائل الإعلام، يفرض أهمية وجود تلك الجهة التي تشرح وتفسر وتبيِّن.
وغياب التوضيح لا يحمي القرار السياسي من النقد؛ بل يوسّع دائرة النقد ويجعله أقل انضباطًا وأكثر عاطفية. النقد في حد ذاته ظاهرة صحية، لكنه يحتاج إلى أرضية معلوماتية سليمة. أما حين يُبنى النقد على معلومات مغلوطة أو ناقصة، فإنه يتحول من أداة تصويب إلى عامل توتر، وقد يُستغل خارجيًا لتشويه المواقف أو الضغط السياسي. من هنا، فإنَّ التواصل الرسمي لا يعني دفاعاً عن الحكومة بقدر ما هو حماية للمجتمع من الانقسام وسوء التقدير.
وفي السياق الإقليمي المُعقد الآن، يُصبح الصمت أكثر كلفة من الكلام المحسوب؛ لأنَّ الأطراف الأخرى لا تصمت، والتصريحات لا تتوقف، ووسائل الإعلام الخارجية تعمل على ترسيخ روايات تخدم مصالحها. وترك الشارع يرد وحده، أو يفسر وحده، يعني تحميله عبئًا لا يفترض به أن يتحمله، وفتح المجال أمام صراعات رأي لا تخدم الاستقرار ولا المصلحة الوطنية.
إن الحاجة إلى متحدث رسمي حقيقي وفاعل، أو آلية تواصل مؤسسية فعّالة، ليست مطلبًا إعلاميًا شكليًا، وإنما ضرورة سياسية واجتماعية؛ لأنها تعكس ثقة الدولة بنفسها، وبشعبها، وبقدرتها على إدارة الحوار دون خوف أو ارتباك. والدولة التي تشرح لا تضعف؛ بل تقوّي جبهتها الداخلية، لأن المواطن الذي يفهم أقل عرضة للتأثر بالإشاعة، وأكثر قدرة على التمييز بين الحقيقة والتضليل.
إنَّ أخطر ما تُواجهه الدول في هذا الزمن ليس الاختلاف؛ بل الفوضى المعرفية. والصمت حين يطول في غير موضعه، لا يحفظ الهيبة؛ بل يتركها عرضة للتأويل. أما التَّواصل المسؤول، الهادئ والمدروس؛ فهو أحد أدوات السيادة الحديثة، وركيزة من ركائز الاستقرار في عالم لم يعد ينتظر التوضيح؛ بل يصنع تفسيره بنفسه إن لم يُقدَّم له.
