د. عبدالله باحجاج
بالصدفة التقيت ثلاثة من مزارعي النجد في مُحافظة ظفار، ومنذ الوهلة الأولى تبينت على ملامحهم قلقًا غير عادي، وبعد قليل من النقاش معهم وجدته قلقًا وجوديًا، وهم ليسوا مزارعين ظرفيين أو جددًا؛ بل أصحاب عمق تاريخي متوارث من الأجداد والآباء الذين اكتشفوا الماء في قلب الصحراء وزرعوها قبل أي جهة حكومية أو خاصة، وفي الثمانينيات تم دعم أبناء وأحفاد الجيل الراحل بتوجيهات سامية من السلطان الراحل قابوس بن سعيد- رحمه الله- عبر تزويدهم بالكهرباء ورصف الطرق إلى مزارعهم التي حصرت عام 2009 بنحو 1170 مزرعة، ومنذ هذا التاريخ وهم يقودون طموحاتنا الوطنية في الرهانات المطلقة على النجد لتأمين أمننا الغذائي، وفتحوا النوافذ على إمكانية أن يكون كذلك سلة غذاء الخليج الذي هو الآن يعتمد على الاستيراد بنسب مرتفعة بعضها يصل من 80% إلى 90%، وخليجنا بذلك يعيش على قلق مستدام، لأن الاعتماد على الخارج مخاطرة تجلت في أزمة كورونا؛ حيث انقطعت سلاسل التوريد، واستولت بعض الدول الكبرى على الغذاء في عرض البحر.
ومزارعونا قد أصبح لديهم الآن خبرات ومعارف بالزراعة في صحراء الربع الخالي، لا تمنحها أرقى جامعات وكليات الزراعة في العالم، ولا يكتسبها المزارع إلّا بمُدد زمنية طويلة، وبخبراتهم قد أصبح البعض منهم يحدد مدى توفر المياه تحت الأرض وكمياتها بصورة تتماهى مع أحدث التقنيات، وقد كنَّا من بين شهود عيان على حالة منها، وهذه الخبرات والمعارف تنتقل بين أبنائهم الذين تجبرهم ظروف انتظار الوظيفة طويلًا على العمل مع آبائهم في الزراعة، بحيث يمكننا القول الآن أن هذه الجهود قد أصبحت تؤمن للوطن اكتفاء ذاتيًا في الكثير من الخضروات والفواكه، وإنتاج محصولات غير متوقعة كالقمح والتمور.. إلخ. وهذه المنطقة تتجه إليها شركات كبرى، وتستهدفها شراكات دول شقيقة وصديقة مع بلادنا، ولا يُمكن لبلادنا الاعتماد المطلق على مثل هذه الشراكات أو الاستثمارات الأجنبية في أمننا الغذائي، فأي توتر في العلاقات معها سيتضرر به الآمن نفسه، لذلك، فتعدد الشراكات هي ضمانة الديمومة، ويظل الأصل الاعتماد المطلق على المزارع العُماني العادي فهو خط دفاعنا الأول عن الآمن الغذائي والاستقرار الاجتماعي، واعتبار الشركات الأجنبية داعمًا إضافيًا لدواعي جذب الاستثمارات.
لذلك، لا بُد من تبديد مخاوف المزارعين، وهي حقيقية، وقد اطلعنا عليها من المزارعين في اللقاء، فلمسنا حجم استيائهم وامتعاضهم من عدم تطبيق ما تم الاتفاق عليه خلال لقاءاتهم واجتماعاتهم مع كافة شركاء الملف الزراعي الحكوميين والمستقلين المركزيين واللا مركزيين؛ بما فيهم وزارة الثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه، وآخرها ورشة عمل لحصر التحديات والحلول لمنطقة النجد الزراعي في 15 يوليو الماضي، اتفقوا من خلالها على تمليك 100 فدان، وما زاد عنه يدفعون رسوم 5 ريالات لكل فدان، وقد حضر هذا اللقاء ممثل رفيع للوزارة المذكورة.
غير أنَّ القرار النهائي جاء على عكس هذا الاتفاق؛ بل وكل التفاهمات السابقة؛ إذ جاء بعقود انتفاع دون المستوى المطلوب، وتجاهَلَ الحيازات الزراعية المُنتِجة، كما جاء برسوم عالية فوق قدرة المزارعين لا تُراعي البُعد الاجتماعي للمزارعين، قد تكون لصالح الشركات الكبرى؛ مما يجعل وضعهم القانوني محل قلق وجودي، ويرتفع هذا القلق إلى حدود السماء بما يعانونه من ارتفاع تكاليف الإنتاج وعلى رأسها فاتورة الكهرباء وأسعار المدخلات الزراعية، ويتزامن مع ذلك تكبدهم لخسائر سنوية متتالية بسبب بعض الآفات والفيروسات التي برزت في بعض المواسم كالبطيخ والشمام وغيرها.
وتلكم الظروف والأحوال قد تدفع ببعض المزارعين إلى هجر الزراعة، وهذا الخيار قد أصبح يحتل مركزية عالية في تفكيرهم.
من هنا، نرفع هذا الملف إلى معالي الدكتور سعود بن حمود الحبسي وزير الثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه، وثقتنا في معاليه كبيرة بعد تجربة معه في قضايا مماثلة تمس أمننا الغذائي؛ فالمزارعون في النجد الظفاري يئنون بصمت من عدم تنفيذ ما رُفِع من توصيات معتمدة، ويتساءلون تحت وطأة تكاليف تتصاعد، وأسواق لا ترحم، وسياسات تسمع من طرف واحد، وإذا سُمعت لا تُنفَّذ، هم يزرعون ليبقوا لا ليغتنوا، وهم بذلك يخدمون أمننا الغذائي والمستهلك العُماني، بقاؤهم حتى الآن قد أصبح معركة غير متكافئة.
معالي الوزير.. دعم الزراعة ليس مِنَّة اجتماعية أو إنتاجًا كالإنتاجات الأخرى؛ بل استثمار سيادي، يتعلق بالأمن الغذائي، فما المانع من تقنين حيازات المزارعين الفعلية المنتجة، وقد استثمروا فيها منذ عقود، وأثبتوا قدرتهم على زراعتها فعلًا؟ وهذا يدخل في تحقيق هدف الإنتاج الاستراتيجي المستدام؟ وكذلك ما المانع من رسوم رمزية ما دام الغذاء قد أصبح من منظومات أمننا، وكل دولة لم تنتج غذاءها عاشت في قلق كبير في أزمة كورونا ما عدا بلادنا بسبب مزارعيها المحليين، ووجود حالة اطمئنان وثقة بوجود مزارعين محليين يمكن الاعتماد عليهم؟
معالي الوزير.. لا بُد من فصل النشاط الزراعي عن التجاري، وأن تُمنح لهم امتيازات وفق هذه الخصوصية كتعرفة كهرباء زراعية خاصة وعاجلة، ودعم مباشر لمستلزمات الطاقة كمضخات الري ودعم أنظمة التحكم الذاتي، وعلى المدى المتوسط التحول للطاقة الشمسية الزراعية مع منح قروض ميسرة ودون فوائد لتركيب الألواح الشمسية في الري، والتشجيع على إنشاء محطات شمسية جماعية للمزارع المتجاورة تشترك في محطة واحدة، ربط دعم الكهرباء بالإنتاج... إلخ.
معالي الوزير.. إنَّ كل ريال يُضَخ في الزراعة المحلية يُعاد تدويره داخل البلاد، وأنتم تعلمون ذلك، وأتمنى أن نكون قد نقلنا لمعاليكم عبر عمودنا الأسبوعي القلق الوجودي للمزارعين ومعاناتهم، وهذا يدخل في صلب دورنا ككاتب يتفاعل مع قضايا وطنه ومواطنيه.
