سعيد المالكي
بدأتُ في الآونة الأخيرة أشعرُ ببعض الارتباك كلما تجولت في شوارع وأسواق البلاد. بلادنا عربية حتى النخاع، لكنني أصبحت أرى أنَّ مُعظم لافتات المحلات التجارية لا تعكس ذلك، لا لغةً ولا هوية.
أرى الكثير من أسماء المحلات تُكتب بالأحرف العربية، لكنها في حقيقتها ليست عربية، وبعضها ليس حتى ترجمة حقيقية لأسماء أجنبية؛ بل مُسميات غريبة بلا أصل لغوي واضح. والأمثلة على ذلك كثيرة، يلاحظها كل من يتأمل المشهد لا أكثر.
ماذا الذي يحدث؟ أليس من الطبيعي- بل ومن الواجب- أن تعكس لافتات المحلات والمرافق التجارية هوية وثقافة ولغة البلد التي وجدت فيها؟ أم أنني لا أفقه معنى التطور الجديد، ذلك الذي يربط الحداثة بالتخلي عن اللغة، لا بتحديثها وصون حضورها في الفضاء العام؟
أستطيع أن أتفهَّم اللافتات التي تحمل أسماء شركات أجنبية، سواء كُتبت بلغتها الأصلية أو عُرّبت صوتيًا بالأحرف العربية؛ فهذه أسماء تجارية عالمية، والانفتاح التجاري والثقافي أمر مطلوب ومفهوم.
لكن ما يصعب استيعابه هو تلك اللافتات التي تحمل مسميات غريبة جدًّا، لا تمتّ للغة العربية ولا للثقافة المحلية بصلة.
هل أصبح النجاح التجاري مرهونًا بخنق اللغة والتقليد؟ أم هل باتت اللغة العربية- في نظر البعض- لغة عاجزة عن مواكبة السوق؟ أم أنَّ الاسم العربي أصبح عيبًا تسويقيًا؟
أم هل القصد من ذلك جذب السياحة والاستثمار؟ إن كان هذا هو التصور، فإنني أرى أن جذب الاستثمار أو السائح لا يكون بتحريف اللغة ولا بتهميشها، بل بالحفاظ عليها، والاعتزاز بها، ونشرها بوصفها جزءًا أصيلًا من هوية المكان. دعم السياحة ليس بتغيير لغتك من أجل من يأتي إليك؛ بل أن تُعرّف القادم إليك بلغتك، وتطلعه على ثقافتك، وتدعوه لاكتشافك كما أنت لا كما تتصنّع. فالمدن التي تجذب السياح بحق، هي تلك التي تُشبه نفسها، لا تلك التي تتنازل عن ملامحها.
الغريب كذلك أن بعض المراكز التجارية الكبرى، وهي مؤسسات عربية خالصة، تتبنى النهج ذاته في اختيار أسماء أجنبية رغم توفر مُقابل عربي واضح له، أو مسميات تبدو عربية بطريقة غير عربية في الوقت نفسه. لماذا يختار التاجر العربي اسمًا أجنبيًا لمشروع محلي صرف؟ وإن كان يفكر في التوسع الخارجي مستقبلًا، فما الذي يمنع الاسم العربي من أن يكون حاضرًا في الخارج، كما نحضر نحن الأسماء الأجنبية بحروفنا العربية في بلداننا؟
الأخطر هو أن عددًا غير قليل من اللافتات يحمل أخطاء لغوية وإملائية صارخة؛ سواء في العربية أو الإنجليزية، بعضها ناتج عن تحريف في الحروف يؤدي إلى نطق خاطئ للاسم. وبعض تلك المسميات يرتبط حتى بأسماء مناطق أو أماكن! وغالبًا ما يكون سبب ذلك أن من صمّم أو خَطَّ تلك اللافتة ربما لا يتقن العربية، ولا يجد من يُصحح له، فتُترك الأخطاء لتصبح واقعًا بصريًا دائمًا. وعلى المدى الطويل، قد يؤدي ذلك إلى تحريف الأسماء في ألسنة النَّاس؛ بل وربما تغييرها فعليًا في التداول العام.
ولعل ما يزيد الأمر خطورة، أن هذا التساهل مع اللغة لم يعد مقتصرًا على اللافتات وحدها، بل تسلل حتى إلى الحديث اليومي. ففي إحدى جلسات المحاضرات العلمية لسماحة مُفتي عام السلطنة، تطرّق إلى أهمية مكافحة الأخطاء الشائعة في اللغة العربية، حتى في كلام الناس فيما بينهم، مشيرًا إلى أن كثيرين باتوا لا يستخدمون اللغة بالطريقة الصحيحة، ظنًّا منهم أنَّ التطور يكمن في المصطلحات الدخيلة لا في سلامة التعبير. وإذا كان هذا حال اللغة في أحاديثنا العابرة، فما بالنا حين تُقصى أو تُشوَّه في الأغراض الرسمية والواجهات العامة التي يفترض أن تمثّل البلد وهويته أمام أهله وزائريه على حد سواء؟
أين هو القسم المختص بالإشراف على اللافتات التجارية عمّا يحدث؟ أم أن اختصاصه يقتصر على شكل اللوحة وألوانها وحجمها، دون الالتفات إلى اللغة، والمسمّى، وعلاقتهما بالهوية والثقافة؟! خاصة وأن دليل اللافتات التجارية الصادر عن بلدية مسقط لم يغفل مسألة اللغة والمحتوى؛ بل جعلها ضمن محدداته الأساسية، ومنح الجهة المختصة صلاحيات واضحة في اعتماد اللافتات أو رفضها، بل وإزالة المخالف منها. وهو ما يفتح بابًا مشروعًا للتساؤل: إذا كانت الأنظمة موجودة، والصلاحيات واضحة، فلماذا نرى هذا الكم من التشوّه اللغوي والبصري في الواقع؟ وهل الخلل في النصوص، أم في آليات التطبيق والمتابعة؟
ربما يكون من المناسب في هذا السياق التفكير في فتح باب التعاون المنظم مع أصحاب الاختصاص في اللغة، فالكفاءات الوطنية متوفرة، وفيها من يضع خبرته في خدمة هذا الوطن بكل رغبة ومسؤولية متى ما أُتيحت له الفرصة عبر القنوات الرسمية، خصوصًا في ملف يمس هوية المجتمع اليومية بهذه الدرجة.
أرى أنه ليس من المنطق فصل مسميات المحلات عن اللغة؛ فاللغة هي أساس التسمية، واللافتات ليست مجرد زينة بصرية، بل عنصر ثقافي وتعليمي غير مباشر. الطفل حين يتجول مع أسرته في الأسواق يقرأ، ويتعلم من اللافتات، وقد يرسخ في ذهنه الخطأ قبل الصواب، من حيث لا ينتبه أحد. لقد كانت اللافتات- كما الأفلام والكتب- إحدى الوسائل التي دعمت تعلمنا للغة، وما زلت أذكر كيف كنت في صغري أحرص على قراءتها كلمة كلمة.
لا يجوز اختزال حماية اللغة في المدرسة أو المناهج التعليمية؛ بل لا بُد أن تكون ممارسة يومية تبدأ من البيت، وتتجلى في الشارع، وعلى واجهات المحلات، وفي الأسماء التي نتداولها بلا تفكير. فاللافتة ليست تفصيلاً شكليًا؛ بل هي خطاب هوية، إما أن يصون اللغة ويعزز حضورها، أو يهمّشها ويقصيها بصمت.
هذا مجرد رأي، قد أخطئ وقد أصيب، والله من وراء القصد.
