د. محمد بن خلفان العاصمي
لن أخوض في بنود اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بين سلطنة عُمان وجمهورية الهند؛ فهناك مختصون أدلوا بدلوهم في بنودها وجميع فصولها وموادها، وقد فصَّلوا جميع الجوانب وذكروا الإيجابيات والتحديات التي تحملها هذه الاتفاقية، وكيف يمكن أن تكون هذه الخطوة نقلة عملاقة للاقتصاد العُماني متى ما أُحسن الاستفادة منها بأقصى قدر ممكن، ولكن في هذا المقال سوف أبحثُ عن قضية اجتماعية مُهمة أرى أننا يجب أن نُركِّز عليها بشكل كبير حتى لا تصبح حجر عثر يعرقل الجهود التي تُبذل من أجل الوصول إلى الأهداف والغايات الاستراتيجية، وهذا هو الهدف الرئيسي للنهضة المتجددة التي جعلت من التطور والنمو أمرًا لا مناص عنه.
تداول كثيرون عبر منصات التواصل الاجتماعي منذ فترة ليست بقصيرة موضوع الاتفاقية الشاملة مع الهند، والتي وُقِّعت قبل يومين هنا في مسقط، وبمباركة سامية من المقام السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه. هذا التداول كان بسيطًا للغاية لا يحمل في طياته سوى هواجس داخلية لمن أعطوا أنفسهم حق الحديث عن موضوع كان- وقتذاك- ما يزال قيد النقاش والإعداد، ولم يكن الأمر سوى مشروع تنتظره العديد من الجولات والإجراءات والمباحثات الطويلة والمشاورات والتعديلات، وما يزال ينتظرها كذلك طريق طويل مرتبط بطرف آخر لديه كامل الحق ليضع آراءه ومنطلقاته ومصالحه في هذا المشروع.
الغريب في الأمر أن البعض ذهب للخوض في تفاصيل دقيقة لهذه الاتفاقية، وكأنه يعلم ما تحتويه من بنود، على الرغم أنه لم يطلع عليها لأنها ببساطة كانت ما تزال في طور التفاوض والإعداد، وقد تحدَّث البعض عن السلبيات وعن جوانب كثيرة حول موضوع الاتفاقية، وغالبًا ما كانت هذه الآراء منطلقة من خلفية سابقة غير إيجابية وترسُّبات تركتها قضية الباحثين عن عمل والمُسرَّحين من وظائفهم. وهذا التناول السطحي- للأسف الشديد- أخذ معه تفاعلًا مجتمعيًا كبيرًا خوفًا من أن تكون هذه الاتفاقية عاملَ إضعافٍ للاقتصاد الوطني، وبابًا من أبواب تمكين العمالة الوافدة- وخاصة الهندية- من السيطرة على قطاع الأعمال والتجارة والتوظيف. وعلى الرغم من أن هناك الكثير من الجوانب غير الواضحة حتى وقت كتابة هذا المقال، إلّا أن استعداد المجتمع للتفاعل مع مثل هذه الأخبار والمعلومات رغم عدم دقتها، عالٍ جدًا، وهو ما يُعرف بالعقل الجمعي.
ويُعرَّف العقل الجمعي بأنه مجموع الأفكار والقيم والمعتقدات والتصورات التي يشترك فيها أفراد مجتمعٍ ما، وتؤثر في سلوكهم وقراراتهم بشكلٍ عام، أحيانًا دون وعيٍ فردي مباشر. وهناك تعريف مُبسَّط وهو «طريقة تفكير المجتمع ككُل»، وليس عقل شخصٍ واحد، ويتكون العقل الجمعي نتيجة تراكم العادات والتقاليد والتربية والتعليم والدين والثقافة والتاريخ المشترك والإعلام والخطاب العام، وبالتالي يتشكل العقل الجمعي للمجتمع من كل ذلك ويصبح هو النموذج الذي يشكل هوية المجتمع ونمطه الاجتماعي وفكره وثقافته السائدة.
التجارب السابقة تُبيِّن عدم رغبة المجتمع في تقبُّل تجارب اقتصادية جديدة، وهو ناتج عن ترسُّخ بعض القناعات والأفكار والممارسات والمعتقدات التي تشكَّلت مع مرور الوقت وأصبحت قناعة واضحة تمنع أو تُقاوِم التغيير. وهذا أمر بالغ الصعوبة في التعامل مع مثل هذه القضايا؛ فالمجتمع يصبح أكثر استعدادًا لتصديق ما يتوافق مع عقله الجمعي ويتطابق مع القناعات المترسخة ويتناسب معها، ولذلك يجد المُروِّجون للأفكار المتوافقة مع العقلية الجمعية سهولة كبيرة جدًا في توجيه الرأي العام نحو ما يريدون، ولا يبذلون جهودًا كبيرة في سبيل ذلك؛ لأنهم لا يحتاجون للمقارنات والأرقام والإثباتات وغيرها من وسائل الإقناع، وخاصةً عند شريحة كبيرة قد لا تمتلك الوعي الكافي للتفنيد. وهذه ليست حالة خاصة بمجتمع مُعيَّن؛ بل حالة عامة تعاني منها المجتمعات في جميع أنحاء العالم.
وقيادة المجتمع نحو فكرة جديدة تتطلب الكثير من الجهد والعمل، وخاصة في مجال زيادة الوعي وتغيير القناعات، ولذلك عندما ترغب في خلق توجه ما أو تغيير قناعات المجتمع حول قضية معينة عليك أن تبذل جهدًا كبيرًا في ذلك، خاصة إذا كانت هذه القناعات مبنية على وضع كان حقيقيًا في مرحلة ما، ولا بُد من خطاب يتسق مع الواقع الجديد؛ فالوعي يُبنى ويتشكَّل من خلال سلسلة مترابطة من العمليات التي تقوم على أساس استخدام التفكير الناقد، واستيعاب الأفكار الجديدة وفق خطاب إعلامي مُتزن ومنهجي، ووفق رؤية متكاملة واضحة للواقع الجديد. ولذلك ينبغي عدم إغفال أمر التهيئة المجتمعية للخطط والمشاريع التنموية الاستراتيجية؛ فالمجتمع شريك أساسي في رسم السياسات المستقبلية وينبغي أن تكون هناك رؤية واضحة في عملية إشراك المجتمع فيما يتعلق بالعمل الوطني.
وحتى لا يُترك الأمر للمُروِّجين والباحثين عن نقرات الإعجاب على منصات التواصل، وزيادة أرقام المتابعين، يتعين على المؤسسات أن تتقدم وبشكل مخطط وأن تُفصح عن خططها بكل شفافية ووضوح، وأن تُبيِّن للمجتمع جميع الجوانب التي تتعلق بأي مشروع، وأن تُكثِّف من جهود التوعية والتثقيف، وأن تكون هي المصدر الرئيسي للمعلومة مباشرةً، دون وسطاء لا يعكسون الأفكار بشكل دقيق وواضح. وهذا أمر بالغ الأهمية، حتى لا نضطر إلى التعامل مع أفكار مُقاوِمة للتغيير، وحتى يتشكَّل عقل جمعي إيجابي يدفع المجتمع للنجاح وتحقيق الأهداف المنشودة.
