اليمن.. إما وإما!

 

 

ناجي بن جمعة البلوشي 

يعيش اليمنُ أزمة معقّدة من التشظّي السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بعد أن أصبح نقطة تصادم لمشاريع إقليمية ودولية متنافسة، تتشابك فيها الحسابات الجيوسياسية مع البُنى التاريخية للمجتمع اليمني نفسه؛ ولأن جذور الأزمة تتأصل بين الدولة الغائبة والبنية القبلية الراسخة، جعلت مشروع الدولة- منذ الوحدة عام 1990 وحتى ما قبل الحرب الأهلية الراهنة- يتذبذب دائمًا بين محاولات المركزية السياسية وواقع الولاءات المتعددة.

ومع مرور الزمن تحولت الدولة الرسمية إلى بنية هشة تستند أكثر إلى التحالفات الشخصية والقبلية منها إلى مؤسسات مُتماسكة. وفور اندلاع الثورات العربية كان التوقيت لحظة الانفجار المؤجل بين كل القوى السياسية، محاولة بذلك إعادة هندسة المشهد السياسي برمته. وذلك من خلال المرحلة الانتقالية، لكن عملية الانتقال السياسي التي كان يُفترض أن تقود نحو عودة الدولة التوافقية الأكثر صلابة، اصطدمت بواقعٍ تراكمي من الإقصاء وعدم الثقة بينهم، ما جعل القوى المختلفة تتعامل مع المرحلة الانتقالية كفرصة لتعزيز نفوذها لا كمسار لبناء الدولة الواحدة القوية.

ومع الوقت تحولت الأزمة السياسية إلى صراع مسلح؛ ما دفع إلى وجود فرصة سانحة للتدخلات الخارجية للفاعلين الإقليميين والدوليين فيها بشكل مباشر عندها أمسى اليمن ساحة صراع إقليمي أكثر تعقيدًا وأكثر امتدادًا للصراعات؛ فالموقع الاستراتيجي على باب المندب والبحر الأحمر، إضافة إلى المخاوف الأمنية من صعود جماعات مسلحة محسوبة لتيارات وقوى اقليمية، أصبح اليمن- بوعي أو دون وعي من أطرافه الداخلية- جزءًا من معادلة أكبر وهي: صراع المحاور، وأمن الملاحة، والنفوذ العسكري، والحد من التمدد الإيراني أو مواجهة السياسات الخليجية ضد ذلك التمدد فيه؛ لينتقل بعدها إلى أوراق ضغط سياسية إقليمية في مفاوضات ومطالبات وشراكات اقتصادية ومصالحية.

ونتيجة ذلك، غدا اليمن مجتمعًا ينهار ببطء من آثار الحرب التي لم تقتصر على تغيير الخريطة السياسية؛ بل أعادت تشكيل المجتمع اليمني ذاته بين انقسامات طائفية وحزبية وقبلية ومناطقية. ومعها تفاقمت الأزمات الاقتصادية حتى بات ملايين اليمنيين في وضع إنساني كارثي. وإذا وضعنا افتراضات لسيناريوهات المستقبل فإنَّ مستقبل اليمن مفتوح على عدة احتمالات؛ أبرزها: الرجوع إلى ما قبل الوحدة اليمنية بحكم التحركات الأخيرة ليكون اليمن دولتين، اليمن الشمالي في صنعاء، واليمن الجنوبي في عدن. وهذا يعني الفوضى خارج إطار مجلس الأمن والاعتراف الدولي وهو خطر على المصالح الدولية والملاحة البحرية وفرصة مُؤكدة لعودة الحرب الأكثر فتكا بعناوين مختلفة.

أما الخيار الثاني فيتمثل في عودة دور المجتمع القبلي والمدني؛ إذ يمكن لهذه القوى أن تصبح عنصر توازن وضغط باتجاه حلول محلية أكثر واقعية من المشاريع السياسية المتصارعة كعودة المحميات والسلطنات المحلية كما سبق أن كان اليمن في التاريخ. وهنا اليمن يصبح دويلات متعددة ويصعب التعامل معه والاعتراف به دولياً كدولة.

لذلك الاحتمال في التسوية السياسية الشاملة والعودة إلى الدولة الواحدة هو الحل الأوحد الأقل كلفة وأكثر وضوحا وهو ما يتطلب قبول الأطراف الأساسية بفكرة الدولة الجامعة من جديد، وتقديم تنازلات متبادلة، وإعادة بناء المؤسسات بعيدًا عن منطق الغلبة، وهو ممكن بالحكمة اليمنية وسيكون ناجحا اذا ما تم دمجه مع الاقتصاد والثروات اليمنية- ربط الاقتصاد بالقبائل والسلطة المركزية- كهيئة أو سلطة اقتصادية مستقلة، وذلك لتقليل اعتماد القبائل على السلاح أو التدخلات الخارجية، مع الابتعاد أو التطرق إلى التقسيم للمناطق بصيغة الفيدرالية والمتسببة أصلا في الحرب القائمة اليوم، بعد أن طرح كخيار في 2014 على أساس 6 أقاليم يمنية لها برلمانها وحكمها الذاتي المستقل- كصورة شكلية فقط- تدار من الخارج لما سيتلقاه كل اقليم من دعم خارجي.

وقد كانت دول الخليج في اجتماعها الأخير أقرت بأنَّ أمن دول مجلس التعاون الخليجي كل لا يتجزأ في إشارة التزام كل الدول بذلك، وبهذا الالتزام يستوجب عليها التوجه الى تحجيم أي جماعة أو فصيل مسلح يمني إلى مستوى لا يسبب خطرا على أمن دولها البحري أو الجوي أو البري مع إمكانية بقاء دوره كحزب سياسي فاعل دون اقصاء. وفي النهاية تبقى أزمة اليمن هي نتيجة تفاعل داخلي معقد و هي أزمة دولة لم تُبنَ يومًا بشكل صحيح رغم انتقالها من المَلكية الى الجمهورية، فإن المجتمع اليمني لا يزال يبحث عن صيغة جديدة للعيش المشترك بعد سنوات من النزاع؛ فمستقبل اليمن مرهون بقدرة أهله على تحويل قسوة الحرب إلى فرصة لإعادة التفكير في بناء الدولة ومؤسساتها وبدعم سخي من مجلس التعاون الخليجي المجاور دون التمسك بدولة منه دون أخرى لما سيسببه ذلك الانفراد بتدخلات تعيد الحال إلى ما كان عليه، أما عن توافق القوى الإقليمية والدولية في استقرار اليمن كدولة موحدة  ليس مكسبًا؛ بل ضرورة للجميع.

الأكثر قراءة

z