د. عادل بن محمد الكندي **
لم يكن المشهد لافتًا لغيري، لكنِّي رأيت فيه ما يشبه " الرسالة الصامتة " التي يكتبها الوطن بأيدي أبنائه.
أب مع أبنائه- بعد صلاة الفجر وقبل وصول السائحين - يمسكون كيس قمامة ويمسحون أحد الأماكن السياحية بسلطنة عُمان باحثين عما خلفه السائحون في اليوم السابق من مخلفات دون انتظار كلمة "شكرًا". لم يستغرق العمل سوى نصف ساعة، ولكنها تحولت إلى ساعات من التفكير: تُرى كيف تتحوّل المواطنة إلى ممارسة يومية، لا إلى خطابات رمزية؟
في الواقع، لقد أصبح الوطن بحاجة إلى العمل أكثر مما تضج به منصات التواصل الاجتماعي من شعارات وانفعالات تعزز ما يسمى بـ المواطنة الرمزية؛ مواطنة لا تغادر مساحتها الافتراضية ونجدها غائبة في الواقع، تُعلن في الاحتفالات والمناسبات وتُختبر حقيقتها في التفاصيل الصغيرة التي لا يراها أحد. وهنا تكمن المشكلة؛ فحين تتحوّل المواطنة إلى "إعلان" فإنها تفقد جوهرها بوصفها مسؤولية وسلوكًا.
إن المواطنة الفاعلة لا تُقاس بما نقوله، بل بما نفعله حين لا يرانا أحد، حين نكون بعيدين عن التصفيق والإضاءة والتصوير. إنها ذلك السلوك البسيط الذي يُبنى بتربية صادقة، وبقيم تتراكم في الوعي مثل طبقات شفافة تصنع شخصية الفرد. وكما يقول التربويون: المنهج الخفي أكثر تأثيرًا من المنهج المكتوب؛ لأن القيم الحقيقية تُمارس ولا تُقال.
وفي كل مجتمع، هناك "مساحات اختبار" صغيرة تكشف الفرق بين المواطن الفاعل والمواطن الرمزي: شخص يعلو صوته احتجاجًا على تأخر الخدمات، ثم تُصدم به وهو يرمي قمامة من نافذة سيارته، وشخص صموت يترك مقعده نظيفًا حين يغادر، ويساعد مَن حوله دون ضجيج. الأول لم تتجاوز المواطنة عنده رموزًا متكلفة والثاني استحالت إلى قيم حياتية ممارسة.
وإذا كانت محطات المواطنة الرمزية تكمن في المنصات والظهور، فإن المواطنة الفاعلة جوهرها القلب والأثر. وشتان بين الاثنين؛ فالقلب والأثر لا يحتاجان إلى منصات للإعلان، بل إلى مواطن يحمل هم وطن، يؤمن أن الخير كالغيث أينما وقع نفع، وأبلغ نفعه حينما يكون قيمة تُمارس لتتحوّل إلى دعوة صامتة تأثيرها أكبر من نصوص مكتوبة ومحاضرات مطوّلة.
الوطن لا يحتاج منا إلى أن نحمله على أكتاف الشعارات، بل إلى غرس عميق في ضمير الممارسة. يحتاج إلى أن يعرف كل فرد أن أثره مهما بدا صغيرًا، هو جزء من صورة كبيرة تشكل الوطن، يحتاج إلى معلم يؤمن أن سلوكه أبلغ من كلماته، وإلى طبيب يمارس ميثاق شرف مهنته واقعًا، وإلى سائق ومستخدم طريق يعليان قيمة السلامة، وإلى موظف يرى في عمله واجبًا قبل أن يكون وظيفة، وإلى كل مربٍّ يعي أن تربيته لذاته هي تربية تلقائية لأجيال سيكونون عماد الوطن ومستقبله.
وختامًا، فالمواطنة الفاعلة ليست مشروعًا عسيرًا، بل عادة يومية تتكرر، وتكبر، وتتحوّل مع الوقت إلى ثقافة، وهي تبدأ من سؤال بسيط:
ماذا قدّمنا للوطن اليوم دون انتظار شكر وثناء؟
ذلك هو الفارق بين المواطنة التي تُقال… والمواطنة التي تُصنع.
** المدير المساعد لدائرة المواطنة بوزارة التربية والتعليم
