الكيان الصهيوني ينهي "الدولة الضامنة" في القانون الدولي

 

 

 

 

خالد بن عمر المرهون **

 

يُعرف القانون الدولي العام بأنَّه "مجموعة القواعد القانونية التي تحكم العلاقات بين الدول والمنظمات والأشخاص الاعتباريين المعترف بهم دوليًا"، وتُعد مصادره الأساسية: المعاهدات الدولية، العرف الدولي، المبادئ العامة للقانون، والأحكام القضائية، كما توجد كذلك مصادر احتياطية للقانون الدولي؛ كأحكام المحاكم، والقرارات الملزمة الصادرة عن المنظمات الدولية وغيرها.

وقد مرَّ القانون الدولي بمراحل كثيرة من التطور عبر مئات السنين. لكن ظهوره بشكل منظم وواضح يعود إلى القرن العشرين، وتحديدًا بعد الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية. ويُعد القانون الدولي الإنساني "قانون الحرب"، والقانون الدولي لحقوق الإنسان، من الفروع المُهمة والرئيسية للقانون الدولي. ورغم خسائر الحرب العالمية الأولى التي فاقت 37 مليون إنسان، ما بين قتيل وجريح ومفقود، إلّا أنَّ المجتمع الدولي لم يستشعر خطر الحرب على المدنيين سوى أثناء الحرب العالمية الثانية، التي خلَّفت أكثر من 60 مليون قتيل، أغلبهم من المدنيين، وهو ما يمثل أكثر من 5% من سكان العالم يومها.

وقد تداعى العالم بعد الحرب العالمية الثانية وتحديدًا اللجنة الدولية للصليب الأحمر للتعاطي مع ما يحدث في الحروب من فظائع؛ بهدف التقليل منها وحماية المدنيين، وانتهى هذا الحراك بالتوقيع في 12 أغسطس 1949 على اتفاقيات جنيف الأربع. وهي مجموعة اتفاقيات دولية تضع القواعد لحماية ضحايا الحروب، وتشمل حماية الجرحى والمرضى من القوات المُسلحة في الميدان، والجرحى والمرضى والغرقى في البحار، وأسرى الحرب و"المدنيين". وتُعد مع بروتوكولاتها الإضافية للعام 1977 حجر الزاوية في القانون الدولي الإنساني، وبمثابة قانون دولي عرفي مُلزم لكافة دول العالم، حتى الدول غير الأطراف أو المنظمة لهذه الاتفاقيات الأربع والبروتوكولات الإضافية. وبالتالي كل من يُخالف أحكامها من الدول والأفراد عرضة للعقوبات لدى المحاكم المختلفة، ولدى المحكمة الجنائية الدولية، وكذلك محكمة العدل الدولية فيما يخص جريمة الإبادة الجماعية. بموجب اتفاقية منع ومُعاقبة جريمة الإبادة الجماعية والتي اعتمدتها بالإجماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في 9 ديسمبر 1948.

وباستعراض ما جرى في غزة بعد السابع من أكتوبر 2023، من العدوان الإجرامي على غزة، نجد أنَّ الكيان الصهيوني المُجرم قد قام بكل صلف وغرور واستعلاء بخرق كل هذه الاتفاقيات وأحكام ومبادئ القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان. كان نتيجتها أكثر من 70 ألف شهيد وأكثر من 171 ألف جريح، وتدمير ممنهج لكل ما له علاقة بالحياة في غزة من بشر وحجر. وبعقلية إجرامية- لم ير لها التاريخ الحديث مثيلًا- وصلت إلى حد قيام الجيش الصهيوني بإطلاق الكلاب المدربة لتنهش أجساد فلسطينيين أحياء، بصورة بشعة، تُبيِّن العنصرية والحقد الأعمى تجاه أصحاب الأرض الأصليين. وما يحدث في هذا الشأن في سجون الاحتلال الصهيوني تجاه الأسرى الفلسطينيين، من جرائم ووسائل تعذيب مقززة يندى لها جبين الإنسانية -ليس هنا المجال لذكرها- في ظل غضب شعبي عالمي متصاعد، وتواطؤ دولي رسمي، وتحديدًا من الدول العظمى الفاعلة، وغياب تام كالعادة للنظام الرسمي العربي.

ووسط الانتقادات العالمية للشعوب والمنظمات الحقوقية والمدنية في معظم دول العالم، وتحديدًا في الولايات المتحدة والدول الغربية الفاعلة، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في التاسع من أكتوبر المنصرم، انتهاء الحرب في غزة، وحلول سلام دائم في الشرق الأوسط؛ حيث عقدت بتاريخ 13 أكتوبر الماضي بمدينة شرم الشيخ المصرية قمةٌ عالمية، بمشاركة أكثر من 31 من قادة دول العالم، وممثليهم، وبحضور الأمين العام للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي. وشهدت القمة التوقيع على وثيقة وقف الحرب في غزة، من قبل الوسطاء الضامنين؛ وهم: الرئيس الأمريكي والرئيس التركي والرئيس المصري وأمير دولة قطر، في أجواء احتفائية بشخص الرئيس دونالد ترامب، ودوره المحوري في إيقاف هذه الحرب، مع الكثير من عبارات الإطراء له، بصفته قائدًا يحمل رؤية للسلام والاستقرار للمنطقة. ومنذ أن أعلن الرئيس ترامب عن إيقاف الحرب والتوقيع على هذه الوثيقة التزمت حماس وفصائل المقاومة بكل ما تضمنته هذه الوثيقة. لكن بالمُقابل قام الكيان الصهيوني بأكثر من 700 خرق لبنودها، بما فيها منع دخول أو تدفق المساعدات الإنسانية، والاستمرار في غلق معبر رفح من الجانب الفلسطيني المُحتل، وتدمير ما بقي من المساكن على رؤوس الأحياء من الفلسطينيين المدنيين.

وفي هذا السياق أيضًا، ومنذُ دخول اتفاق وقف إطلاق النَّار بين حزب الله والكيان الصهيوني -بوساطة أمريكية وحراك دبلوماسي فرنسي-، في 27 من نوفمبر 2024، لينهي نحو 14 شهرًا من المواجهات بين الطرفين، التزم بها حزب الله التزامًا كاملًا، قام الكيان الصهيوني وفق بيانات قوة الأمم المتحدة في لبنان (UNIFIL) بأكثر من 10 آلاف خرق؛ منها: أكثر من 8100 خرق جوي، وأكثر من 2600 خرق بري وأكثر من 1000 لإطلاق نيران عبر الحدود المعتمدة (الخط الأزرق)، راح ضحيتها العشرات من المدنيين اللبنانيين الأبرياء، وسط صمت دولي معتاد ومريب، وكالعادة، غياب تام للنظام الرسمي العربي.

لقد دمَّر الكيان الصهيوني بأفعاله هذه ما يسمى بـ"الدولة الضامنة" في القانون الدولي The Guarantor State In International Law، وهي الدولة التي تقوم بدور مُهم لضمان تنفيذ بنود الاتفاقيات، وعدم اندلاع المواجهات العسكرية مجددًا، وتكون عامل محوري في الوصول إلى اتفاق معين لإنهاء الحروب والنزاعات، وذلك لثقة الأطراف أو إحدى أطراف الاتفاقية في قيامها بتأمين تنفيذ بنود الاتفاق. ومما شجع الكيان الصهيوني على الخرق السافر لهاتين الاتفاقيتين- حسب المراقبين- الدور المزدوج الذي تلعبه واشنطن؛ حيث تحاول الظهور علنًا بأنها تقوم بالضغط على تل أبيب للامتثال لصمود الاتفاق، وفي الوقت نفسه تسمح لجيش الكيان الصهيوني بالعدوان؛ بل وتباركه، ليتمكن هذا الكيان من فرض معادلته على المنطقة، وطبعًا في ظل الغياب التام لدور بقية الوسطاء الضامنين في القيام بما يتوجب عليهم القيام به في هذا الشأن.

لقد أثبتت الأحداث الأخيرة خلال العامين المنصرمين، أنَّه لا وجود للقانون الدولي عندما يتعلق الأمر بالكيان الصهيوني، وأنَّه لا يمكن لكيان مارق لا يعبأ بالقانون الدولي، ولا بقرارات الشرعية الدولية الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية، ولا بالحقوق التاريخية للفلسطينيين، ولا بوجود لعدالة جنائية دولية، ويعمل وفق رؤية صهيونية دينية -مُحرَّفة-، لا تؤمن حتى بحق الحياة للفلسطينيين، أن يكون شريكًا في ما يسمى عملية سلام أو دولة فلسطينية مستقلة، في ضل حماية أمريكية وغربية علنية لجرائمه تحميه من المساءلة.. "قضي الأمر الذي فيه تستفتيان".

** متخصص في القانون الدولي والشؤون السياسية

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z