صناديق الاستثمار الخليجية تتجه نحو الهند وشرق إفريقيا (1- 2)

 

 

محمد بن علي بن حمد العريمي

mahaluraimi@gmail.com

 

في لحظة فارقة من التحولات الاقتصادية العالمية، أثبتت دول الخليج عبر صناديق ثروتها السيادية أنها نموذج رائد في إدارة الاستثمارات بذكاء واستراتيجية. لم تعد الثروة النفطية هي المحدد الوحيد للقوة الاقتصادية؛ بل تحوّلت إلى أداة لبناء حضور عالمي مستدام، يجمع بين التنويع المالي والابتكار التكنولوجي والقدرة على توقيع اتفاقيات اقتصادية ناجحة. وتبرز سلطنة عُمان كمثال حي على هذا النجاح، عبر براعتها في خلق شراكات استثمارية متينة مع أسواق صاعدة مثل الهند وشرق إفريقيا، وإبرام اتفاقيات ذهب ومعدِّنات (Mineralizers) واستثمارات استراتيجية في بوركينا فاسو والعراق؛ مما يضعها في مصاف الدول التي تجمع بين الرؤية الاقتصادية المتقدمة والتنفيذ الذكي.

تتحرك صناديق الاستثمار السيادية الخليجية كقوة مالية صاعدة تسعى إلى إعادة تشكيل ملامح التدفقات الاستثمارية نحو الأسواق الواعدة. لم يعد النفط وحده هو المحرك الأوحد لاقتصادات المنطقة؛ بل باتت الاستراتيجيات اليوم مبنية على تنويع المصادر، اقتناص الفرص في الأسواق الناشئة، وتعزيز النفوذ الإقليمي عبر استثمارات طويلة المدى. وفي قلب هذه الاستراتيجية يبرز اتجاه متنامٍ نحو الهند وشرق إفريقيا، وهما منطقتان تحملان وعودًا استثنائية للنمو، وتستقطبان اهتمامًا خليجيًا متزايدًا، بينما تتحرك سلطنة عُمان على وجه الخصوص بخطوات متقدمة لتوقيع اتفاقيات جديدة في قطاع الذهب والمعادن، بما يجعلها لاعبًا محوريًا في رسم مستقبل الاستثمار الخليجي الأفريقي.

في إطار هذا التوجه، تأتي الهند في طليعة الوجهات؛ حيث تمثل الهند تمثل حجر الزاوية في هذا التوجه. فهي ليست فقط دولة ذات تعداد سكاني يتجاوز 1.4 مليار نسمة؛ بل اقتصادها ينمو بمعدل يجعلها مرشحة لتكون ثالث أكبر اقتصاد عالمي خلال عقد واحد. بالنسبة للصناديق الخليجية، فإن ضخ الاستثمارات في الهند يعني الدخول إلى سوق ضخمة ذات إمكانات هائلة؛ سواء في التكنولوجيا الرقمية حيث تزدهر الشركات الناشئة، أو في البنية التحتية التي تشهد مشروعات عملاقة تقدر قيمتها بأكثر من 1.4 تريليون دولار ضمن خطط حكومية تمتد حتى 2030. كما إن قطاع الطاقة المتجددة الهندي يوفر فرصًا مثالية للتكامل مع خطط دول الخليج التي تسعى بدورها لتقليل الاعتماد على النفط وتعزيز أمن الطاقة، وهو ما دفع الصناديق الخليجية للمشاركة في مشاريع كبرى للطاقة الشمسية والرياح داخل شبه القارة الهندية.

الأرقام هنا ناطقة. فقد سجَّلت استثمارات صناديق الاستثمار السيادية الخليجية في الهند نحو 6.7 مليار دولار عام 2022، وتزايد الزخم في السنوات التالية مع دخول صناديق مثل جهاز أبوظبي للاستثمار وصندوق الاستثمارات العامة السعودي وصندوق الاستثمار العُماني في شراكات مع شركات ناشئة وصناديق رأس مال جريء، حتى إن جهاز الاستثمار العُماني أعلن في 2025 دخوله في صندوق "جولدن جيت فينتشرز" الذي يركز على الشركات التقنية الناشئة في الهند، في خطوة تعكس رغبة السلطنة في أن تكون جزءًا من الثورة التكنولوجية في أكبر ديمقراطية في العالم.

لكن الوجهة لا تتوقف عند الهند، فشرق إفريقيا تفرض حضورها بقوة على خريطة الاستثمار الخليجي؛ فمِن إثيوبيا وكينيا إلى تنزانيا ورواندا، تشهد المنطقة مشاريع واسعة النطاق في مجالات الزراعة والبنية التحتية والطاقة. بالنسبة لدول الخليج، فإن الاستثمار في الزراعة بشرق إفريقيا ليس مجرد صفقة مالية؛ بل هو ركيزة استراتيجية لتحقيق الأمن الغذائي. الأراضي الزراعية الخصبة في إثيوبيا والسودان وكينيا باتت وجهة لاستثمارات خليجية تهدف إلى إنتاج الحبوب والمنتجات الزراعية وتصديرها إلى أسواق الخليج، ما يضمن استقرار الإمدادات في مواجهة تقلبات السوق العالمية.

التقارير تشير إلى أن صادرات دول الخليج إلى إفريقيا تضاعفت من 30 مليار دولار عام 2016 إلى 65 مليار دولار عام 2022، بينما تجاوزت الاستثمارات الخليجية في إفريقيا مجتمعة 100 مليار دولار بحلول 2023. وتحتل الإمارات الصدارة بنحو 59.4 مليار دولار، تليها السعودية بـ25.6 مليار دولار، ثم قطر بـ7.2 مليار دولار، بينما تستثمر سلطنة عُمان حوالي 3.3 مليار ريال عُماني في قطاعات متنوعة تشمل الطاقة والبنية التحتية. هذه الأرقام تُبرز أن إفريقيا باتت ساحة تنافسية رئيسية على استثمارات الخليج، خاصة مع دخول لاعبين دوليين مثل الصين والهند في سباق النفوذ الاقتصادي داخل القارة.

وفي قلب هذه التحركات، برزت سلطنة عُمان خلال عامي 2024 و2025 بخطوات استراتيجية لافتة، خاصةً في قطاع الذهب والمعادن في إفريقيا. فقد وقّعت السلطنة في أغسطس 2025 اتفاقيات مهمة مع بوركينا فاسو، أحد أكبر منتجي الذهب في القارة. الاتفاقيات شملت شراكة بين جهاز الاستثمار العُماني و"الشركة الوطنية للمشاركة في المعادن" في بوركينا فاسو لتطوير مشاريع تعدين الذهب، إلى جانب اتفاق آخر في مجال الزراعة والأمن الغذائي يتضمن استثمارات في زراعة الأرز ومحاصيل استراتيجية أخرى. هذه الخطوة تعكس بوضوح كيف تسعى عُمان إلى ربط استثماراتها في القارة الأفريقية بمحاور استراتيجية تشمل المعادن والموارد الطبيعية إلى جانب الغذاء والطاقة.

ولم يتوقف الأمر عند بوركينا فاسو؛ بل امتد إلى شمال إفريقيا؛ حيث أُعلن عن إنشاء صندوق استثماري مشترك بين سلطنة عُمان والجزائر بقيمة 300 مليون دولار، يُركِّز على قطاعات الصحة والطاقة والزراعة والمعادن. وهذا الصندوق يعكس إدراك الجانبين لأهمية تعزيز التكامل الاقتصادي بين الخليج وشمال إفريقيا، ويُظهر رغبة عُمان في توسيع حضورها الاستثماري بما يتجاوز شرق القارة إلى مناطق أخرى غنية بالموارد.

يُتبع...

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z