ريم الحامدية
بينما تمضي الأيام بنا في إيقاعها المعتاد، ننتقل بين العمل والأهل والصحبة، نرتب ما لا ينتهي من التفاصيل، ونظن أن الغد يشبه اليوم، وأن خطواتنا المطمئنة ستظل على ذات النسق، لا يخطر ببالنا أن القدر قد يخبئ بين طياته ما يُغير اتجاه السير، ويوقظ فينا ما خمد من مشاعر، ويُعيد ترتيب الأولويات من جديد، نعيش اليقين من فرط الاعتياد ونظن أن الهدوء قدر دائم وأن العافية حق طبيعي لا يسلب، إلى أن تأتي اللحظة التي تتغير فيها الخارطة.
قبل أربعة عشر يومًا من الآن، تبدّل المشهد كما لو أنّ الحياة أرادت أن تُعلمنا درًسا بطريقة لا تنسى، أصيبت أمي ذلك النبض الذي ينسى أنَّه يتعب بوعكة صحية شديدة، هزَّت قلوبنا قبل أن تهز تفاصيل يومنا، تلك اللحظة التي ينكمش فيها العالم كله ليصبح سؤالًا واحدًا: كيف حالها الآن؟ وكأنَّ الله أراد أن يوقظ فينا الحس الغافي بقيمة الصحة والعافية وقيمة الدعاء وقيمة الخوف حين يصبح أثقل من الجسد.
في تلك اللحظات أدركنا بعمق ألّا نعمة تضاهي نعمة الصحة، وأن عافية الجسد ليست مجرد حالة نعيشها، بل سند تستند إليه أرواحنا، ورغيف أمان نقتات به لنواصل الطريق.
ومع المرض، ومع الخوف، ومع الدعاء الذي لا يُغلق بابه، بدأت الحقائق تظهر واضحة بأن معدن الإنسان لا يسطُع إلّا حين تمُر نار الابتلاء عليه، في مثل هذه الظروف، ترى الوجوه على حقيقتها، وتسمع القلوب قبل الأصوات، وتلمس صدق النوايا قبل الكلمات، فهناك من يطرق بابك دون دعوة ومن يرفع عنك حملا ومن يسأل من قلق لا مجاملة ومن يضعك في دعائه كأنك جزء من عافيته، بينما هناك من يكشف غيابه عن حقيقة لم نكن نُريد رؤيتها؛ فالشدائد لا تجرح قلوبنا فقط؛ بل تجرح أوهامنا وتبني لنا بصيرة جديدة.
هكذا، لا يختبر المرء صدق البشر في الرخاء كما يختبره في الشدة؛ فالمواقف الصعبة تعمل كضوء كاشف، تُعرّي الزيف، وتُبرز الصدق، وتُعيد رسم خارطة العلاقات بميزان لا يخطئ.
وفي خضم كل هذا، يتجلّى المعنى الأعمق أن الإنسان ليس إلّا أثرًا يمشي على الأرض، كلمة طيبة، موقف نبيل، يد ممدودة، ودعاء لا ينسى، نحن نغادر الأماكن، لكن أثرنا يبقى، يرافق من عرفنا، ويسند من أحبنا، ويشهد علينا قبل أن يشهد لنا.
فالإنسان ليس بما يملك ولا بما يصل إليه؛ بل بما يتركه وراءه فنحن أثر يمشي، ويسعف ويحن ويزرع الطمأنينة في قلب أحدهم دون أن ينتبه، وكلما اشتدت الأيام علينا فهمنا أنَّ القيمة الحقيقية للإنسان تكمن في رسمته التي يبقيها في حياة الآخرين وفي أثره الطيب.
اليوم وأنا أكتب هذه الكلمات أستشعر امتنانًا عميقًا لكل دعوة صادقة ولكل يد امتدت ولكل قلب شاركنا حمل اللحظة؛ فالحمد لله على الأقدار التي تُعيد تربيتنا، وعلى محن تُلين قلوبنا، وتظهر لنا القيمة الحقيقة للعافية وتكشف لنا عن معادن بشر ربما لم نكن نعرفهم إلا بعد أن امتحنتهم الأيام.
ولعل ما مرَّ لم يكن إلّا تذكيرًا بأن نكون لطفاء وأن نخلف أثرًا طيبًا، وأن نغادر اللحظات والأماكن وقد زرعنا فيها ما يكفي من نور ليهتدي به من يأتي بعدنا؛ فالحياة لا تحفظ أسماءنا طويلًا لكنها تحفظ بصماتنا، وتحفظ ذلك الوهج الذي نتركه في دروب الآخرين، فمن عاش بلطفٍ عاش مرتين؛ مرة في قلبه، وأخرى في قلوب من لامسهم عبوره.
