زيارة الأمير محمد بن سلمان لواشنطن.. ولحظة التحول الإقليمي والعالمي

عبدالنبي الشعلة **

يحقّ للسعوديين والخليجيين والعرب جميعًا أن يفخروا بما حملته الزيارة الرسمية التي قام بها صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان آل سعود وليّ عهد المملكة العربية السعودية، إلى العاصمة الأمريكية واشنطن قبل أيام، من رسائل سياسية ودبلوماسية واقتصادية بالغة الدلالة. فقد لقي سموه حفاوة استثنائية في مراسم استقبال عكست مكانة المملكة المتنامية، وجاءت أقرب ما تكون إلى «زيارة دولة» بكل مظاهرها الرمزية، رغم طبيعتها الرسمية.

وقد عبّر هذا الاستقبال اللافت عن حجم التحوّل الذي تشهده العلاقة السعودية-الأمريكية، وعن الدور الذي باتت تلعبه الرياض على المسرح الدولي بوصفها شريكًا مركزيًا لا يمكن تجاوزه.

وتأتي هذه الزيارة في ظل بيئة دولية مضطربة، وفي وقت تمارس فيه السعودية سياسة خارجية أكثر استقلالية ونشاطًا؛ فمنذ إعادة علاقاتها مع إيران بوساطة صينية العام الماضي، أثبتت الرياض أنها لاعبٌ إقليميٌ قادرٌ على تهدئة التوترات وبناء قنوات تواصل مع مختلف الأطراف. كما برز دورها في ملفات أخرى مثل دعم الحكومة الانتقالية في السودان، وتعزيز فرص الاستقرار في اليمن والصومال، فضلًا عن مساعيها في جمع الأطراف الدولية خلال محادثات الحرب الروسية-الأوكرانية، حيث استضافت لقاءات مهمة بين مسؤولين من موسكو وواشنطن.

هذه التحرّكات تعكس انتقال السياسة السعودية من التركيز الحصري على الاقتصاد والطاقة إلى دور أكثر اتساعًا يرتبط بالأمن والوساطة وصياغة التوازنات الإقليمية.

الجانب الأبرز في الزيارة تمثّل في تأكيد الشراكة الاستراتيجية بين الرياض وواشنطن، وتوسيعها لتشمل ملفات جديدة، خصوصًا الدفاع والتكنولوجيا والطاقة والذكاء الاصطناعي.

فمن الجانب الأمريكي، تسعى الولايات المتحدة إلى تعزيز حضورها في الخليج العربي في مواجهة تصاعد النفوذ الصيني، وتأمل في بناء تعاون تكنولوجي وأمني أعمق مع الرياض. ويُنظر إلى المملكة حاليًا بوصفها شريكًا قادرًا على الاستثمار في الصناعات الحيوية الأمريكية، والمساهمة في شبكات سلاسل الإمداد، وخلق توازن مستدام في المنطقة.

أما من الجانب السعودي، فتأتي هذه الشراكة في صلب رؤية "المملكة 2030"، التي تقوم على تنويع الاقتصاد، واستقطاب التكنولوجيا، وبناء قطاع صناعي متقدّم، وتعزيز قدرات المملكة الدفاعية. ولذلك فإن الوصول إلى التكنولوجيا الأمريكية المتقدّمة، بما فيها الصناعات العسكرية والذكاء الاصطناعي والطاقة، بات عنصرًا جوهريًا في مسار التحوّل السعودي.

وقد شهدت الزيارة توقيع عدد من الاتفاقيات التي تحمل طابعًا استراتيجيًا بعيد المدى، من أهمها:

1. اتفاقية الدفاع الاستراتيجي؛ حيث أعلن الجانب الأمريكي موافقته على تزويد المملكة بمقاتلات F-35 ضمن حزمة دفاعية أوسع تشمل أنظمة وتكنولوجيا متقدمة، ما يؤكد انتقال العلاقات الدفاعية إلى مستوى أعلى من الثقة والتكامل. وتمهد هذه الخطوة لمرحلة جديدة يمكن أن تقود لاحقًا إلى «معاهدة دفاعية شاملة».

2. شراكة في الذكاء الاصطناعي والصناعات المتقدمة؛ وتُعد هذه الاتفاقية واحدة من أهم مخرجات الزيارة، إذ تراهن واشنطن على دور السعودية في تعزيز هيمنتها التكنولوجية عالميًا، بينما تسعى الرياض إلى بناء بنية تحتية رقمية قادرة على تشغيل مراكز بيانات عالمية وقيادة مشاريع ذكاء اصطناعي كبرى في المنطقة.

3. التعاون في الطاقة النووية المدنية؛ تهدف هذه الخطوة إلى دعم مشاريع المملكة في الطاقة البديلة التي ستُسند إليها أعباء تشغيل شبكات الذكاء الاصطناعي كثيفة الطاقة. ويتضمّن التعاون استثمارات مشتركة في الطاقة الشمسية، وتطوير الشبكات الكهربائية، وتعزيز أمن الإمدادات للطاقة النظيفة.

4. تأمين سلاسل الإمداد الحرجة؛ حيث وقَّعت الرياض وواشنطن اتفاقيات في مجال المعادن واليورانيوم والمعادن النادرة، وهي مواد حيوية للرقائق الإلكترونية والصناعات المستقبلية، ما يشكّل ركيزة أساسية لاستقلالية المملكة في صناعات التكنولوجيا الفائقة.

ورغم الطابع الاحتفالي للزيارة، تبقى المصالح الاقتصادية هي المحور الأهم؛ فالولايات المتحدة تسعى إلى جذب المزيد من الاستثمارات السعودية في الداخل الأمريكي، بينما تعمل الرياض على تحويل اقتصادها إلى اقتصاد متنوع قائم على التقنية والابتكار.

وقد تم الإعلان خلال الزيارة عن توجّه المملكة لزيادة استثماراتها في الولايات المتحدة في قطاعات الطاقة والتكنولوجيا والصناعات الدفاعية، بما ينسجم مع طموحاتها في أن تصبح قوة صناعية واقتصادية تنافس في الأسواق العالمية.

وتبرز المملكة كقوة مؤثرة في أسواق الطاقة، بفضل دورها المحوري في «أوبك بلس» وقدرتها على تحقيق توازن عالمي بين الأمن الطاقي والتنمية الاقتصادية، وهو توازن يدرك الأمريكيون أهميته في ظل تسارع التحوّلات الجيوسياسية.

لقد حافظ سمو وليّ العهد على وضوح تام في موقف المملكة من التطبيع مع إسرائيل، مجددًا أن السعودية لن تنضم إلى الاتفاقيات الإبراهيمية إلّا في إطار حلّ الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة تضمن الأمن والعدالة والاستقرار.

وهذا الثبات في الموقف يعكس إدراكًا سعوديًا بأن بناء شرق أوسط جديد لا يمكن أن يتحقق من دون معالجة جذرية لقضية فلسطين.

إنَّ زيارة الأمير محمد بن سلمان لواشنطن شكّلت اختبارًا حقيقيًا لقدرة البلدين على إدارة الملفات الأكثر حساسية (الأمن، الاقتصاد، التكنولوجيا، الطاقة، والتطبيع مع إسرائيل) في عالم سريع التغيّر. كما أنها جاءت لتؤكد أن المملكة دخلت مرحلة جديدة من الحضور الدولي، وأن شراكتها مع الولايات المتحدة لم تعد مجرد امتداد تاريخي، بل مشروع متجدّد يقوم على المصالح المشتركة والرؤى المستقبلية.

وبالنسبة للمنطقة، فإن نجاح هذه الزيارة يشير إلى أن السعودية ماضية في ترسيخ دورها كقوة عربية مركزية تمتلك رؤية واضحة، وتحالفات مؤثرة، وطموحًا اقتصاديًا وسياسيًا يعيد رسم خريطة الشرق الأوسط.

** كاتب بحريني

الأكثر قراءة

z