مدرين المكتومية
من شُرفتي بالطابق السابع عشر في فندق سوفيتيل داون تاون بالعاصمة المصرية القاهرة، تتلألأ مياه النيل أمامي تحت أشعة الشمس الصافية راسمة لوحة استثنائية، ففي قاهرة المُعز السماء صافية والمدينة تمتد في الأفق نابضة بالحياة وبصخب أصوات السيارات وزحام المارة، ما منحني فرصة عيش تجربة فريدة في قلب القاهرة الساحرة، تزامنًا مع حضوري مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته السادسة والأربعين.
ووسط إيقاع الحياة السريع، يتملكني شعور يشبه مشاهدة لقطة افتتاحية لفيلم بديع، ترى كل شيء فيه بحقيقته وبألوانه الممتعة وبالأصوات الحقيقية دون أي مونتاج، كل ذلك من هنا، من هذا الارتفاع الذي يبدو كل شيء فيه أكثر وضوحًا ودقة.. تفاصيل الحياة وازدحام منتصف النهار، وتباين ملامح الوجوه بين العجلة والهدوء.. بين الركض وراء العمل والبحث عن فسحة ووقت لالتقاط الأنفاس.
أراقب كل ذلك وكأنني أشاهد أحد الأفلام المشاركة في المهرجان الذي أسعد بتغطيته عامًا تلو الآخر، ولو أتيحت لي الفرصة لأسميتُ هذ الفيلم "القاهرة بعيوني" ليكون أبطاله هم الناس الحقيقيون في الشوارع الذين نقابلهم في الشوارع والمزارات والمواصلات، أبطال حقيقيون يعيشون تفاصيل حياتهم ببساطة دون تكلف. فحين أنظر للأسفل أرى الباعة يفتحون أبواب أرزاقهم، والمتسوقين يعقدون صفقاتهم الصغيرة، والموظفين يسابقون عقارب الساعة للوصول إلى مكاتبهم أو مقار عملهم، مشاهد لا تنتهي لكنها تشبه في صدقها أجمل ما يمكن أن تقدمه السينما "حكايات من الحياة".
مهرجان القاهرة هذا العام وككل دوراته، يأتي بنسخة جديدة محافظة على أناقتها مضيفة إلى بريقها تفاصيل صغيرة لكنها مؤثرة، كل شيء فيه منظم ومرتب، إذ يحرص القائمون عليه على تقديم كل ما يلزم لجعل كل نسخه مفاجأة وجميلة.
فمنذ لحظة الوصول يلمس الزائر حفاوة الاستقبال ودقة التنظيم وكأن الفريق العامل قد قرر أن يجعل من كل مرحلة في المهرجان مشهدًا مُتقنًا، فيصبح الانتقال بين العروض والندوات واللقاءات تجربة سلسة ومُمتعة يشعر فيها الضيف بأنه جزء من احتفالية فنية عريقة تتجاوز الفنون إلى الإنسان ذاته، كل شيء منتقى بدقة حتى الأفلام المعروضة والندوات المقدمة والورش والنشرة اليومية التي تبهر القارئ.
ولأنَّ مهرجان القاهرة يعد من أهم المهرجانات وأعرقها، يحرص صناع الأفلام من مختلف أنحاء العالم أن يكونوا جزءًا من هذه التجربة، إدراكًا منهم لقيمة المهرجان ومكانته كمنصة عالمية تتيح للأعمال السينمائية أن ترى وتناقش وتقرأ بعيون نقدية خلاقة ومنصفة ومتوازنة.. فهنا في القاهرة تتقاطع الثقافات وتتحاور التجارب وتُوَلِّد أفكارًا جديدة قد تمهد لمشروعات سينمائية مستقبلية.
وإنني أرى أن مهرجان القاهرة السينمائي الدولي يجسد أصالة الفن المصري؛ فالسينما المصرية لها تاريخ عريق لا يمكن إنكاره، واستلهم الجميع منها أفكارها وتجاربها باعتبارها رائدة الفن في الوطن العربي، ومنبع الإبداع الفكري والثقافي.
ومع اقتراب حفل الختام، تتصاعد التوقعات وتزداد الأسئلة حول الأفلام التي ستتوج بالجوائز هذه الدورة، ولكن من المؤكد أنَّ القيمة الحقيقية لا تكمن في النتائج وحدها بل في ذلك الشغف الجماعي الذي يجمع الجمهور وصُنَّاع السينما تحت سقف واحد، يحيون فيه جمال الصورة وقوة الحكاية في نسق يكمل صورة المهرجان، فشكرًا لكل القائمين على هذا المشهد الثقافي السينمائي الرائع.
