أحمد الفقيه العجيلي
اطلعت مُؤخرًا على تقريرٍ صحفي نُشر في جريدة عُمان تناول أبرز ما تحقق في منطقة النجد الزراعية بمحافظة ظفار، وما تشهده من تطورات ميدانية مرتبطة بجهود تعزيز الأمن الغذائي الوطني.
التقرير تضمّن أرقامًا ومؤشرات حول حجم الإنتاج والاستثمار في المنطقة، وهي معطيات تستحق التوقف عندها وإعادة قراءتها بتمعّن، خصوصًا في ضوء ما طُرح سابقًا من تساؤلات حول مستقبل هذا المشروع الاستراتيجي.
قبل أيام، تناولت في مقال بجريدة الرؤية، تحت عنوان «النجد بين الطموحات والواقع: هل تُعيد "جايكا" الأمل لسلة غذاء عُمان؟» جملة من الأسئلة حول مسار المشروع ومآلاته، ومدى واقعية الطموحات المرتبطة باتفاقية التعاون الفني مع الوكالة اليابانية للتعاون الدولي "جايكا". واليوم، يبدو أن بعض تلك التساؤلات بدأت تجد ما يدعمها من مؤشرات تنفيذية تكشف أن المشروع بدأ يخطو خطوات عملية على الأرض.
الأرقام الواردة في التقرير تشير إلى أنَّ قيمة المنتجات الزراعية في النجد تجاوزت خلال موسم (2023/ 2024) نحو 66 مليون ريال عُماني، توزَّعت بين الخضراوات والحشائش والقمح والتمور والثروة الحيوانية، فيما بلغت قيمة الاستثمارات الزراعية الحالية نحو 190 مليون ريال عُماني. هذه الأرقام تعكس مرحلة نمو متسارعة نأمل أن تُترجم إلى منجزاتٍ ملموسة على أرض الواقع، تعزز الثقة بالمشروع وتؤكد جدواه الاقتصادية والاجتماعية.
الأهم من ذلك أن المشروع لم يعد يُطرح كـ«فكرة إنقاذ» أو مشروع تجريبي محدود؛ بل أصبح جزءًا من مبادرة وطنية كبرى هي «السلة الغذائية لسلطنة عُمان»، التي تضم 25 سلعة أساسية تستهدف تقليل الاعتماد على الواردات وتوطين الإنتاج المحلي. كما إن التعاون مع (جايكا) لم يعد مجرد دراسة استشارية، بل تطوّر إلى برنامج متكامل لتحليل التربة والمياه، وإعداد خريطة محصولية اقتصادية، وربط النتائج بخطط الإمداد الغذائي المستدام.
ويبدو أن المشروع بدأ يأخذ طابع التنفيذ الفعلي من خلال العمل على تهيئة البنى الأساسية والخدمات اللوجستية؛ حيث يجري إنشاء مجمع لتجميع وتسويق المنتجات الزراعية بنسبة إنجاز تجاوزت 40%، إلى جانب مدينتين زراعيتين في المزيونة والشصر، ومناطق لوجستية وشبكة طرق تخدم مسارات النقل الزراعي.
ومع التمنّي أن تكون هذه الأرقام والمشاريع واقعية ومستدامة، فإن المرحلة المقبلة تتطلب تنسيقًا أكبر بين الجهات المعنية وتكاملًا في الأدوار التنفيذية، بما يضمن تحقيق أعلى كفاءة تشغيلية ممكنة في إدارة المشروع ومتابعته.
وفي هذا السياق، لا بأس من النظر إلى تجارب عربية مشابهة يمكن الاستفادة منها في رسم ملامح النجاح والاستدامة؛ ففي مصر، جاء مشروع «مستقبل مصر للإنتاج الزراعي» ضمن منطقة «الدلتا الجديدة» كأحد أكبر مشاريع التوسع الزراعي في الصحراء الغربية، مستهدفًا استصلاح ملايين الأفدنة وتوفير بنية تحتية متكاملة تشمل شبكات ري حديثة وخدمات لوجستية وأسواقًا للتسويق الزراعي، ما أسهم في تقليص الفجوة الغذائية وتعزيز الإنتاج المحلي.
وفي المملكة العربية السعودية، تبرز مبادرة «السعودية الخضراء» كنهج وطني لاستعادة الأراضي المتدهورة وتوسيع الرقعة الزراعية بالتقنيات الحديثة وتحسين كفاءة استخدام المياه، بما يعزز الأمن الغذائي ويحافظ على التوازن البيئي.
أما في الجزائر، فيُعد مشروع «برنامج الحفاظ على التنوع الزراعي والاقتصادي للأراضي الواحاتية في وادي مْزي» نموذجًا مميزًا في إدارة الموارد الطبيعية داخل البيئات الجافة، إذ يجمع بين الإنتاج الزراعي والحفاظ على التنوع البيولوجي، ويرتكز على شراكة حقيقية بين الدولة والمجتمعات المحلية.
هذه النماذج تؤكد أن نجاح المشاريع الزراعية الكبرى لا يقاس بالأرقام وحدها؛ بل بمدى كفاءة الإدارة التشغيلية واستدامة الموارد الطبيعية، خاصة في البيئات الصحراوية الحساسة التي تتطلب إدارة دقيقة للمياه والطاقة؛ فالتخطيط المتكامل لا يكفي ما لم يُترجم إلى أداءٍ ميداني منضبط يربط بين الإنتاج والجودة والاستدامة.
إنَّ منطقة النجد- بما تملكه من مقومات ومساحة تمتد على نحو 40 ألف كيلومتر مربع- ليست مجرد مشروع زراعي؛ بل رؤية وطنية لاختبار قدرة عُمان على تحقيق أمنها الغذائي الذاتي وسط عالمٍ تتزايد فيه التحديات المناخية واضطرابات سلاسل التوريد.
والأرقام الأخيرة، على أهميتها، تظل بحاجة إلى متابعة وتقييم ميداني مستمر، وتطوير متواصل في كفاءة التشغيل والإدارة، لضمان تحويل الطموحات إلى منجزاتٍ مستدامة تسهم في بناء نموذج وطني فعّال للأمن الغذائي في السلطنة.
لا شك أن ما تحقق حتى الآن يمثل خطوة مهمة في مسار بناء نموذج وطني للأمن الغذائي في عُمان، غير أن التحدي الأكبر يبقى في مواصلة المتابعة والتقييم الميداني، وتطوير كفاءة التشغيل والإدارة، حتى تتحول مشاريع النجد إلى قصة نجاح مستدامة تُترجم الطموحات إلى منجزات ملموسة.
وفي الختام، فإن النجاح الحقيقي لا يُقاس بالمؤشرات وحدها؛ بل بقدرتنا على تحويل الأرقام إلى واقعٍ منتج، والإمكانات إلى منجزاتٍ متواصلة. وتلك هي المعادلة التي يمكن أن تجعل من النجد قصة نجاح زراعي وطني، تمتد ثمارها من ظفار إلى كل ربوع عُمان.
