جابر حسين العُماني
يشهد العالم المُعاصر تحولات متسارعة في تقييم المنابر الدينية والإعلامية والإلكترونية، فقد أصبحت بعض المنابر تقاس بما تقدمه من جدل أو شهرة أو إثارة للفتن، وليس بما تقدمه من معرفة وعلم ووعي وحكمة، باستثناء المنابر الصادقة التي تواصل جهودها لخلق منارات من العلم والفهم والإدراك؛ حيث تسعى مثابرة بهدف إصلاح ما فسد في أمة المليار مسلم.
لقد أصبحت الكثير من المنابر في زماننا هذا فارغة من المحتوى الهادف، فهي لا تقدم إلا التفاهة والتضليل والأباطيل، والهدف منها تجهيل الناس ونشر الجهل في كل زاوية من زوايا المجتمع، وذلك بنشر الخرافات والإشاعات على حساب العلم والمعرفة والحكمة، فهي تشحن الجماهير بالعبارات الرنانة والواهية التي بدورها تثير الساحة الاجتماعية وتشعلها بالفتن، وتربي أجيالا لا تذوق طعمًا للعلم والمعرفة؛ بل تسعى بأساليبها الرخيصة والدنيئة لإضعاف العقول وجرها خلف الشعارات المشحونة بالأفكار المدسوسة، كالطائفية المقيتة التي يريد أعداء الأمة الإسلامية زرعها في جسد مجتمعنا العربي والإسلامي عبر منابر التفاهة.
ومسؤولية المنبر الرسالي الأصيل يجب أن تكون مبنية على المصلحة العامة للأمة، وبناء الإنسان بناءً سليمًا، وهو المنبر القائم على العلم والمعرفة، لذا ينبغي الحفاظ عليه والتمسك به والالتفاف حوله، لضمان حماية العقل العربي من السقوط في وحل الضلال والتضليل والانحرافات القادمة من الثقافات الغربية.
اليوم هناك من المنابر التافهة التي إذا تابعتها وتأملتها ستجدها لا تستطيع العيش إلا على الإثارة والجدل، اللذين من خلالهما تسعى لتغذية المجتمعات العربية والإسلامية بالأحقاد والكراهية، ببث الأصوات الكاذبة تحت عباءة الدين والوطنية والشرف، لتخفي أساليبها الشيطانية التي تقوم من خلالها بدس السم في العسل، لتصل إلى مآربها وأهدافها.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ اَلْمَسْئُولُ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَاَلرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَاَلْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَاَلْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَاَلرَّجُلُ فِي مَالِ أَبِيهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ).
اليوم هناك واجب رسالي وإنساني يقع على عاتق أهل الوعي والإدراك والعقلانية في الداخل الاجتماعي، سواء على صعيد الحكومات ومسؤوليها أو المثقفين من أبناء الوطن أو الأسرة نفسها، وهو رفع الوعي والإدراك الجماهيري بخطورة منابر التفاهة، وتوعية المجتمع والأسرة بضلالتها وانحرافها وخطرها على المجتمع، ولا يكون ذلك إلا بتعزيز ما يلي:
- أولًا: العمل على ترسيخ ثقافة الوعي النقدي في المجتمع، وذلك بتعليم الناس كيفية التمييز بين المعلومات الصحيحة والمضللة، وتفنيد الإشاعات المغرضة التي تطرحها المنابر غير الموثوقة.
- ثانيًا: كشف أساليب أهل الضلال، كاللعب بعواطف الناس، أو بتر النصوص، أو مقاطع الفيديو، أو التلاعب بالألفاظ والأرقام وغيرها، خصوصا ونحن نواكب برامج الذكاء الاصطناعي وصنع الأكاذيب من خلالها بشكل دقيق لتضليل الناس وحرفهم عن جادة الطريق.
- ثالثًا: الاهتمام البالغ بالحوار والردود العلمية في مواجهة المنابر التافهة والأفكار الضالة والمنحرفة، ويكون ذلك بعرض الحجج العلمية الدامغة المبنية على الدليل العلمي، بعيدا عن التهجم والسخرية والشتائم التي قد ينفر منها الطرف المقابل.
- رابعًا: العمل على تحصين المجتمع وأفراده، ويأتي ذلك بنشر وترسيخ الثقافة الإسلامية الواعية والمقنعة من خلال تعليم الأخلاق والقيم والمبادئ الإنسانية في المدارس والجامعات والمساجد والبيوت.
- خامسًا: تفعيل القانون لمنع المنابر التافهة التي تثير الكراهية والفتن وتدعو إلى العنف والطائفية، لذا يجب المطالبة الفورية بإيقافها، وذلك عبر الالتزام بالقوانين والتشريعات والأنظمة العادلة في الدولة، والتأكيد على مواجهتها، فتلك مسؤولية الجميع وليس فقط دور تقوم به الدولة أو المؤسسات الوطنية.
وأخيرًا.. تقع على الجهات المعنية مسؤولية عظيمة تجاه المجتمع، وهي إعداد المنابر الإصلاحية الواعية بأنواعها، وإظهارها للجميع، ويكون ذلك عبر تدريب الخطباء والمفكرين على أساليب الإلقاء المؤثرة، وعدم السماح باعتلاء المنابر إلا بعد دراسة فن الخطابة والارتباط بالمصادر العلمية الموثوقة، والتشجيع على أهمية القراءة والبحث العلمي المستمر، ودعم القنوات النزيهة وإفساح المجال أمام أهل الخبرة والبحوث العلمية للظهور الإعلامي، وتوفير الموارد الكافية للمشاريع العلمية الجادة، حتى يتمكن المجتمع من التخلص من منابر التفاهة واستبدالها بمنابر العلم والوعي والإصلاح.
عضو الجمعية العُمانية للكتاب والأدباء
